اختار توماس بارفيلد في كتابه (عرب وسط آسيا في أفغانستان) فئة العرب الذين يقطنون في الشمال الشرقي لأفغانستان مجتمعا لدراسته، لمعرفة التغيرات التي طرأت على طريقة معيشتهم خلال السنوات الخمسين الماضية، وهم عرب بدو احترفوا الرعي يرتحلون فصليا من وديان النهر في أراض منخفضة إلى قمم الجبال العالية.
ويثير بارفيلد في كتابه مشكلة حقيقية تلفت انتباه كل من يتعرض لنوع من هذه الدراسات عن هذه الفئة، وهي: من هو البدوي، وما هو تعريفه، ويقول في هذا الصدد بعبارات موجزة معبرة: (ابتليت دراسة البدو بالافتتان بالتصنيف بطريقة أكاديمية بحتة، وأدت هذه الدراسة التصنيفية النابعة من علم الجغرافيا الثقافية إلى سوء فهمنا للبداوة أكثر من أن تقدم بعدا أعمق لطبيعة هذا النمط من الحياة).
ومن واقع هذه المشكلة نجح بارفيلد في تقديم صورة جميلة وذات معنى عن تصنيف البداوة وحقيقتها، وجوهر هذا النمط من العيش الذي هو مظهر إنساني وحضاري يقهر فيه البدوي عوامل كثيرة وتبرع فيه قدراته.
ولعل النتيجة البارزة التي يصل إليها أي قارئ لهذا الكتاب هو تماثل التجربة الإنسانية، فالكتاب يتحدث عن عرب وسط آسيا في أفغانستان، لكنه كأنما ينقل صورة شبه مطابقة لمجتمع بدو شبه الجزيرة العربية، وأنقل مقتطفات من تلك الحياة خاصة بنساء بدو أفغانستان تحاكي مثيلاتها من نساء شبه الجزيرة العربية منها:
(أما النساء فهن غير مسؤولات عن رعي القطعان، وإنما تقع عليهن مهمة نصب الخيام وتوفير المادة الضرورية التي يمكن عملها في المنزل والقيام بالأعمال التي تتعلق بالحليب وإطعام العائلة.. وتتولى النساء نصب الخيمة ونقضها، ومع احتمال مساعدة الرجال لهن، فإن معظم العمل يقع على عاتقهن، وأكثر ما يلاحظ ذلك في نهاية يوم الهجرة).
ونص آخر: (ويتم الحصول على الكثير من التجهيزات التي يستخدمها العرب عن طريق الشراء من السوق إلا أن هناك أشياء معينة تضعها النساء، أهمها اللباد الذي يقمن بإنتاجه كما يقمن بتنظيف الصوف المجزوز من الأغنام وضربه وطرقه ولفه، ليتحول إلى النوع المطلوب من اللباد فهو يستخدم في تبطين الأردية كبطانيات للسروج وفرشات، كما يقمن بغزل أنواع أخرى من الصوف على شكل خيوط يصنع منها قماش صوفي ثقيل، والنساء يقمن أيضا بفتل حبل متين من الصوف، وبالإضافة إلى هذه المنتجات تعمل النساء ستارا خفيفا من القصب يسمى (بوريا) مشبوكا بعضه ببعض بخيوط من الصوف ويستخدم هذا الستار كحاجز لصد الريح، ولستر جوانب خيام الصيف).
في الختام: إن هذه الدراسة القيمة إنما تعكس بالفعل واقع البحث العلمي الحقيقي كما أشرت سابقا، فالبحث متعة وممارسة وتدقيق، وهي كما قال بارفيلد بعبارة مؤثرة: (البحث مجرد مدخل إلى أرض وأناس منحوني فرصة مشاركتهم حياتهم وسوف أكون دائما وأبدا ممتنا لهم).