رؤية - سعود الصاعدي
توطئة
ما من شك في أن دخول مضمار الشعر في جو مشحون بما يناقض عنفوان هذا الشعر، ويضاد مزاجه العصي على التأطير، يحتاج إلى أن يتوسل الشاعر بأشياء خارجة عن الشعر، كي يصل ويتجاوز الحواجز واحداً تلو الآخر، تلك التي تعترضه في الطريق، والشاعر حينما يخوض هذا التحدي يقف بين خيارين: إما أن يلقي كل ما يؤمن به خارج حساباته، ليقدم ذلك قرباناً للبيرق المشروط بمزاج التصويت، واللجنة، وظروف البرنامج الهامشية، وكل ما يمكن أن يلقيه، ليصل إلى الشوط الأخير، ويكون أحد الخماسي المتوج.
وإما أن يلقي كل هذه الحسابات خلف ظهره، ويتجه نحو ما يؤمن به، وما يمليه عليه الشعر من طقوسه الخاصة، ومزاجه الصعب الذي يكتنفه الغموض، وفي هذه الحالة، قد يخسر الرهان، ويعلن الخروج المبكر.
كان عيضة السفياني بين هذين الخيارين، ولأنه أحد الشعراء الذين راهنوا على الحضور من أجل الشعر، ووضعوا نصب أعينهم: الهم الشعري أولاً. وبتعبير آخر: الفن ولا شيء غيره، فقد اعترضته حواجز عدة، واستطاع تجاوزها باقتدار.
الحاجز الأول: القبيلة
كانت مشكلة عيضة السفياني الكبرى تتمثل في الدم الفوار الذي يضج في عروقه، فهو ابن ثقيف، وله عليها، بحسب شروط البرنامج، واجبات، ولها عليه كذلك، وهنا تصطدم رغبته مع الرغبة السائدة، الهم المشترك الذي أسهمت سياسة البرنامج في تأجيجه، فصار كل شاعر لساناً لقبيلته، أو هو بالأصح أحد فرسانها وأحد الأقنعة التي ترتديه في هذه المعركة الشرسة بين القبائل. لكن عيضة وبكل شجاعة حرك البوصلة باتجاه الفكر الرياضي ليطرحه بديلاً للفكر القبلي، وهي مناورة ذكية تحسب له، ولا تكلفه سوى أبيات معدودة، وقد اختار فريق الهلال رمزاً لهذا الحضور، الأمر الذي أثار حفيظة البعض ضده، وكان من الطبيعي أن يجد هجمة شرسة، لأنه يطرح رؤية جديدة، خارجة عن مألوف التكريس القبلي الذي أسهم فيه البرنامج، وجعل من المتعصبين وقوداً له فاجتاز عيضة هذه القنطرة بنجاح، وكان نصه الشعري بعنوان (أزمة شاعر)، وهي فعلاً أزمة استطاع الشاعر من خلال النص التعبير عنها برؤية شعرية عالية تستحق الإشادة.
لقد كان عيضة شجاعاً، وفي الوقت نفسه يعكس تحضراً متمثلاً في قبيلته التي وقفت معه، فالقبيلة تحضر هنا بوعي وحس شعري عالٍ، يكفيها من ابنها أن يجيد لعبة الحضور، ويطرح اسمه المرتبط بها كما يليق بها وبالشعر، بعيداً عن اجترار الأصوات التي رثت حبالها في زمن الحضارة والنهضة العلمية.
الحاجز الثاني: الولاء
استطاع عيضة -بذكاء- أن يقدم تجربة الولاء للوطن بطريقة مغايرة، فهو لم يكتفِ بشرط اللجنة فحسب، وإنما جعل هذه المرحلة من ألفها إلى يائها، تجربة وطنية خالصة، بدءاً بانتمائه للأرض، واختيار الأمير الشاعر في مقدمة الإهداء صاحب السمو الملكي الأمير خالد الفيصل، ثم الولوج إلى النص، بعنوان (أزمة مواطن)، وقد عالجها الشاعر بحرفنة، واستطاع بمقدرة فنية أن يمد أصابع الاتهام لجشع التجار الذين يجيرون عطاءات الوطن لهم فنقل صوت المواطن بطريقة حوارية، وكان شجاعاً في تلمس الداء الأمر الذي يجعلنا نعد هذا النص وطنياً، ولكن بطريقة مختلفة لا تتخذ من الوطن قناعاً، وإنما تقدم الهم الوطني بشفافية صادقة، مع التأكيد على ما ينبغي من احترام وحب متبادل بين الراعي والرعية.
بينما حضر الوطن بكامل بهائه في النص المشروط ليكلل هذه الوطنية برمزية العلم، وفي السياق ذاته جاء وصف الناقة، حين اختار القصواء ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي رؤية من زاوية تاريخية، ودينية، وجغرافية تمس الوطن، لم تعتد النصوص الشعبية العامية عليها، لأن الناقة في الشعر العامي تحضر -دائماً- بوصفها ناقة مجردة من الذاكرة الثقافية والدينية، وقد تناول كل شاعر وصف الإبل من زاويته، الأمر الذي عكس رؤية كل شاعر، وما يهجس به، وقد كان عيضة أقرب الشعراء إلى ذاكرة الوطن، وألصق بموضوع الولاء. وهو ما يجعلنا نؤكد وعي الشاعر بتجربته الشعرية، ووجود تناغم بين نصوصه، وهذا التناغم هو ما أسميه مجازاً رباط الرؤية الشعرية.
الحاجز الثالث: التصويت
المشكلة الكبرى التي تقلق عيضة السفياني، هي مشكلة التصويت، وهي ليست مشكلة الشاعر، وإنما مشكلة البرنامج، حين يصدم المتلقي بأصوات تأتي اعتباطاً، أو هي مدفوعة مسبقاً من خلال الجماهير، وبطاقات الشحن، وهي أزمة جعلت الشعر كله في مزاد علني، وقدمت الشعراء على أنهم دمي تتحرك بأيدٍ خفية، مما يجعل الشعراء يتجاوزون بجهد غيرهم دون أن يكون للشعر أثر في ذلك. لكن عيضة ورفاقه أرادوا تجاوز هذه الأزمة باسم الشعر أيضاً. فاخترعوا اسم (قبيلة الشعر)، ونشروا ذلك من خلال موقع إلكتروني عبر فضاء الشبكة العنكبوتية، جاء في مقدمة هؤلاء الشعراء: أحمد البلوي، محمد الوسمي، فيصل بن محفوظ، محمد عيضة، عبدالله الكايد، محمد علي العمري، عاطف الحربي، وذلك بقصد خلق ثقافة انتماء جديدة تتمثل في التوحد الأدبي والشعري، وجعلوا ذلك ميثاقاً لهم ليكون بديلاً لرابطة القبيلة التي اخترقت النسيج الاجتماعي للوطن، في إشارة منهم إلى إعادة الثقافة في الواجهة، ونبذ التعصب القبلي، وهو مشروع حضاري يحسب لهم ويؤكد مدى وعي هؤلاء الشباب بثقافة الانتماء المدني، بعيداً عن النعرات القبلية، والمناطقية الضيقة، وقد نجحوا في اختيار الاسم الجديد لقبيلتهم (قبيلة الشعر)، وذلك لإعطاء دلالة عميقة تنطلق من الشعر، وهو الميثاق الذي تمثله عيضة السفياني في البرنامج، وجعله ينأى عن الطريقة المألوفة للشعراء في هذا البرنامج حين يتكلمون بصوت القبيلة، وينادي بصوت الشعر بدءاً من: أزمة شاعر، ومروراً بأزمة مواطن، وانتهاء بالقصواء ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فهل سيستمر عيضة، ويقفز حاجز التصويت، بصحبة هؤلاء الرفاق، أم أنه سيقف عند هذا الحد مكتفياً بما قدم؟
أتمنى لعيضة ورفاقه التوفيق ومواصلة رحلتهم الممتعة مع الشعر..