القضايا المصيرية التي تمس عامة الناس لا يكفي عند معالجتها واتخاذ قرارات بشأنها تشكيل اللجان ولا الاكتفاء بآراء المستشارين فقط, وإنما يلزم طرحها على الرأي العام وسماع الآراء ووجهات النظر المختلفة حولها من خلال وسائل الإعلام المكتوبة والمسموعة والمرئية، ومشاركة أصحاب الخبرة واستشارتهم وسماع أرائهم ثم عقد المؤتمرات والندوات ودعوة جميع من تمسهم هذه القرارات وذلك قبل الرفع بأي توصيات لولاة الأمر - حفظهم الله - لاتخاذ أي قرارات حولها.
ومناسبة هذا الكلام هي القرارات التي صدرت مؤخراً بتخفيض مساحات القمح ودعم الأعلاف المستوردة وفرض العديد من القيود التي تهدف لتحجيم الزراعة في المملكة، بل إيقافها.
إن قرار إيقاف الزراعة رغم ما يشاع من أنه يهدف للمحافظة على المياه إلا أنه يأتي في توقيت يتوافق مع عدد من الظروف التي يعيشها العالم. وتعاني منها المملكة بشكل خاص ومؤثر نذكر منها ما يلي:
* اختفاء بعض السلع وارتفاع أسعارها من حين لآخر، وأهمها الدقيق, وهذا يحدث والمملكة لا تزال تنتج القمح فكيف سيكون الحال عندما تتوقف الزراعة وعندما نعتمد على الاستيراد؟. وماذا عن ارتفاع أسعار المنتجات الزراعية الأخرى ومدى توفرها والذي لم نشعر به طوال السنين الماضية منذ بدأت النهضة الزراعية في المملكة؟ فهل من المناسب الحديث عن إيقاف الزراعة في هذا التوقيت الذي طال الغلاء فيه كافة مناحي الحياة؟ وهل نسينا يوم أن كان صندوق الطماطم وكيس البصل والبطاطس يباع بسعر 70 ريال؟
* توقف الزراعة لا يعني توقف عدد من المزارع أو المشاريع التي بناها أهلها واستثمروا فيها رؤوس أموالهم فاستردوها أو استردوا جزءاً منها، إننا هنا نتكلم عن مجتمعات ومدن وقرى وهجر قامت على الزراعة. كما نتكلم عن قطاعات اقتصادية إنتاجية وخدمية قامت على الزراعة، وقبائل وأسر يعتمد أفرادها على الزراعة في دخلهم ومعيشتهم. فماذا سيكون مصير ذلك كله؟
ستأتي إلى بلد مثل حائل والجوف وتبوك ووادي الدواسر والأفلاج والخرج وغيرها لتجدها قد تحولت إلى مدن أشباح وأطلال وهجرها أهلها إلى المدن الرئيسية التي ستعاني من الهجرة العكسية وستكتظ بالسكان العاطلين عن العمل وستظهر مشكلة البطالة وتكشر عن أنيابها وتكبر وتتفاقم المشاكل الأمنية التي يعاني منها البلد حالياً. خاصة في ظروف عانت فيها من الإرهاب وتبعاته وتبين أن العاطلين هم الوقود الأساسي فيه.
* قرار وقف الزراعة عند اتخاذه فلابد أنه قد أستند إلى دراسات تفصيلية دقيقة أعدت من قبل جهات استشارية موثوق في إمكاناتها ولابد أن هذه الدراسات قد بينت الإمكانات المائية في التكوينات والمناطق المختلفة وحجم المخزون فيها ومعدلات التغذية لهذه التكوينات إن وجد, كما لابد أن تكو قد درست بدقة حجم الاستنزاف في كل منطقة وعلى كل تكوين وتفاوت ذلك من منطقة إلى أخرى ونوعية المياه وكمياتها المتاحة للزراعة والشرب والاستخدامات البلدية.
كما لا تغفل مثل هذه الدراسات موضوع تحلية المياه المالحة في شبه جزيرة مثل المملكة تحيط بها البحار من كل الاتجاهات، والتقدم التقني المضطرد في مجال التحلية وتكاليفها ودور ذلك في المساهمة في توفير الاحتياجات المائية.
منذ عدة سنوات أعلنت وزارة المياه أنها قد كلفت البنك الدولي باعداد هذه الدراسات. وهنا نكتفي بالإشارة إلى ما ورد في مقال الاخ عبدالعزيز السويد في جريدة الحياة بعنوان(اتبعوا اسلوبهم ولا تتبعوا نصائحهم) تعليقاً على المقال المنشور في (نيويورك تايمز) وعربته الشرق الأوسط، ولمن لم يقرأ المقال نورد موجزا لما طرحه الكاتب،حيث أكد على عدم سماع نصائح البنك الدولي والدول الممولة له والتي تسعى للمحافظة على تبعية دول العالم الثالث لها. وضرب مثلاً بدولة أفريقية هي الملاوي والتي عانت كغيرها لسنين طويلة من الفقر والجوع نتيجة سماع نصائح البنك الدولي بعدم دفع إعانات للزراعة والمزارعين وربط تقديم المساعدات من البنك ومن أمريكا وأوروبا بتنفيذ تلك التوصيات. وحين قرر الرئيس - آنذاك- عام 2005م ان يتبع القاعدة التي وضعها والتي تقول (اتبع اسلوبهم ولا تتبع نصائحهم) وقدم الإعانات والدعم للزراعة. حينها انقلب الحال وتحولت هذه الدولة الفقيرة الجائعة إلى دولة غنية اكتفت ذاتيا وصدرت لجيرانها الفائض من إنتاجها. وأشار الكاتب إلى أن الأمثلة على ذلك كثيرة من شرق آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية.
كما أورد الكاتب إشارة لطيفة مفادها أن الدول الغنية مثل السعودية ودول الخليج ليست مضطرة لأن تنصاع لنصائح البنك الدولي لأنه لا حاجة لها في الإعانات التي يقدمها هو والدول التي تمولها.
فأين نحن من ذلك كله؟ وهل لا نزال مصرين على أن نسمع نصائح البنك الدولي ونهدم هذا القطاع الحيوي الهام الذي بنيناه خلال نصف قرن من الزمن؟
لا شك أنه كان هناك استنزاف للموارد المائية خلال الفترة الماضية نتيجة العشوائية وعدم وجود خطة استراتيجية للزراعة في المملكة ولكن ذلك لا يعني أن نتخذ قراراً بإيقافها إلى الأبد.
منطقة مثل بسيطا في الجوف رغم مرور حوالي 20 عاما على زراعتها إلا أن منسوب المياه فيها لم يحدث له تغيير يذكر. دليل أن له تغذية تأتي من دول ومناطق أخرى.
ودليل على انه لا خوف من نضوب مياهها لو وضعت لها خطة تسير عليها وعملت لها توليفة محصولية تناسب إمكاناتها.
أخيراً نود الإشارة إلى أن عدم ظهور ردود فعل المزارعين حول قرارات إغلاق وإيقاف الزراعة لا يعني أنهم راضين عنها. ولكن كما يبدو أنه لا يوجد لهم من يتبنى قضاياهم ويوصلها للمسؤولين. كما لا يوجد بينهم كتاب يطرحون همومهم ومشاكلهم فيكتفون بالحديث في المجالس والمكاتب ظناً منهم أن ذلك أقصى ما يستطيعون فعله.
أملنا في ولاة أمرنا وفقهم الله أن يعيدوا النظر في الزراعة وقراراتها وأن ينظروا كما عودونا بعين الاعتبار لهذه الشريحة الكادحة من المجتمع.
والله من وراء القصد،،،،
عضو مجلس الإدارة
رئيس اللجنة التنفيذية
شركة الجوف للتنمية الزراعية
E.mail:altelas@hotmail.com
altelas@yahoo.com