تختلف مدارك الناس كل الناس - الذكر والأنثى- في أي زمان كانوا وعلى أي أرض هم يعيشون، وتتباين طبائع بني آدم واهتماماتهم واتجاهاتهم ونوازعهم ومكنوناتهم التي يحملونها في ذواتهم سواء أكانت هذه الذوات صحيحة صادقة سليمة أو مريضة نتنة خبيثة، ومع كل ذاك فهم غالباً يعيشون في محبة وسلام يتعاملون فيما بينهم بكل ثقة ويخضعون جميعاً لما بين أيديهم من دساتير ونصوص تحدد الحقوق والواجبات وتضمن لكل طرف كرامته خاصة في ظل سلطة قوية تطبق الأحكام التي وإن كانت تقضي بالموت أو السجن لأشخاص يحملون هوية الوطن ويعيشون على أرضه وينتظمون في سلك العاملين فيه، فهي تضمن في ذات الوقت بعد توفيق الله وعونه حياة المجتمع و طمأنينته وسلامته داخلياً وهيبته وعزته خارجياً، والناس في نظرتهم لهذه العيشة يختلفون على فرق متعددة وبنسب مختلفة، ففي المدينة الإنسان الواقعي في نظرته للأمور وقراءته للأحداث وتقييمه للمسؤولين والعاملين سواء أكانوا في رأس الهرم أو السفح سياسيين أو اقتصاديين أو علماء ومفكرين، أصحاب معالي أو فضيلة أو سعادة أو... وهناك المثالي الذي ينتظر قيام المدينة الفاضلة ذلك الحلم الجميل الذي لا وجود له إلا في رؤوس الفلاسفة النازعين والجانحين نحو الخيال وهذا النوع من بني جلدتنا تجده يترفع عن الواقع والحراك اليومي ويعيش في برج عاجي بين أوراق الكتب ومع الأفكار والنظريات التي كانت وما زالت مجرد رؤى تتعارض مع المعطيات التي يبني عليها الإنسان نظرته للأمور.. أم الفريق الثلاث فهو الذي يقرأ كل شيء قراءة سوداوية ويحلل الأحداث برؤية أُحادية فجة، ويتهم كل من يقف في وجه نوازعه ورغباته الذاتية الدفينة أو يختلف معه سواء في أيديولوجيته التي تصفده من أخمص قدميه حتى مفرق رأسه أو في نسبه وعرقه وقبيلته أو في منطقته أو في هواه وتوجهاته ونزواته أو... ويمتدح كل من يُشعرهُ بأهميته المزعومة ويسعى جاهداً لخدمته وإن كانت في غير مكانها ولا يقرها عرف أو نظام، ولا يتصور هذا المسكين صاحب ال(أنا) المتضخمة أن في الوطن أو حتى في هذا الجزء أو ذاك من هذا الكيان الكبير من يحمل الهم العام إلا هو ومنهم على شاكلته أو هكذا يحلو له أن يقدم نفسه للغير ويراه الآخرون، ولذا تلحظ عليه حين يتحدث عن ذاته ما يدلك على شعوره الدفين بأنه لا يوجد من يفهم مجريات الأمور ممن يعيشون في محيطه المحلي إلا شخصه الكريم، ولذلك تجده يرخي العنان للسانه في مجالس العوام والبسطاء، فيتحدث في كل ضرب من ضروب الحياة ويذكر من الأرقام والشواهد مالا يمكن لأحد أن يثبته أو ينفيه ولذا يتلحف مستمعه بالصمت ويكتفي بهز الرأس فيكبر هو في عين ذاته ويستدرجه شيطان هواه إلى أكثر من ذلك في مستقبل أيامه، ودائماً هذا النوع من بني البشر يوظف النصوص والتصريحات والقرارات التي تأتي في سياق عام لما يخدم هدفه الشخصي الذي يلهث وراءه باسم المصلحة العامة التي يدعي زوراً وبهتاناً أنه أوقف حياته وسخر طاقاته وضحى بمصالحه وعائلته من أجلها، وإذا أعيته الحيلة ولم يستطع توظيف علاقاته، وخانته قراءته العوجاء للواقع نصب نفسه أمام المجتمع الصغير مدافعاً عن حقوق الضعفاء والمعوزين من بني أمته والمهمشين والحائرين في منطقته، الذين - يعتقد هو- أنهم أعجز من أن يصلوا إلى طاولة المسؤول ذي المنصب والجاه، وطبعاً الشماعة الدائمة التي يتخفى خلفها ويرفع صوته باسمها (المصلحة العامة) وربما الاحتساب وقد تكون المواطنة الحقة وإذا لم يستطع لا هذا ولا ذاك كانت الشكوى الكيدية هي مطيته المفضلة للوصول إلى الهدف الذي أضمره في نفسه نحو من يختلف معه، وقد يكون الانتصار للذات الدافع الأوحد لهذا المشمر عن ساعديه ليرجف في المدينة، والغير يعتقد أنه من أنصار الحقيقة وليس له مطمع إلا إعادة الأمور إلى نصابها الصحيح، والمسؤول في الهرم الإداري ليس له إلا المظهر، (ولعل أحدكم يكون ألحن بحجته من الآخر...)، وغالباً هذا النوع من الناس يكون باباً من أبواب الفتنة ومدخلاً من مداخل الشر ومعوقاً من معوقات الإصلاح والتنمية خاصة إذ كان من أصحاب الحضور الإعلامي الذي يسوق أفكاره باللغة التي تروق لمن حوله وتسقي قناعات مستقرة في نفوس مستمعيه فتحيى بعد أن كانت شبه ميتة، ويكون الجمهور الذي غالباً ما ينساق وراء العاطفة أداة طائعة في يدي أمثال هؤلاء تحت مسميات عدة وشعوراً بالظلم الذي لا وجود له على الحقيقة، ولن يوقف أمثال هؤلاء المرجفين في المدينة إلا العقاب المشوهود.