نستعرض كثيراً من السياسات العربية إزاء العديد من القضايا والأهداف سواء كان ذلك في محيطها الداخلي وقضاياها الاجتماعية والمحلية, أو في الفضاء الدولي وصراع المصالح مع الدول والكيانات الأخرى، نجد أن الكثير من الخطط والجهود العربية المبذولة دائماً ما تنكب على تحقيق الأهداف قريبة المدى, ونعني بها اتباع أسلوب التكتيك واستجلاب نتائجه العاجلة، فيما يغيب وبشكل كبير وواضح الأسلوب الأهم والأنفع إن لم نقل الضروري في عالم اليوم, ونعني به الإستراتيجي الذي يلعب دوراً مهماً في تدشين أمان الشعوب وضمان مستقبل أجيالها حيال الكثير من القضايا.
من الجميل أن تسعى السياسيات الرسمية والمعالجة إلى استقطاب وإحلال حلول سريعة الحدث والإيجابية، ومن الأجمل أيضاً تحقيق الأهداف بطريقة مباشرة وتكلفة أقل إذ كان ذلك ما تستدعيه طبيعة الإشكال وكينونته, شريطة لا يتولد عن هذا الحل السريع إرهاصات ذات تأثير امتدادي على الأمد الطويل. ما تقدم لا يعني أننا نسفه من أهمية اعتماد الأسلوب التكتيكي في معالجة الكثير من القضايا التي يتطلب موضوعها اتباعه، بل إننا نتحدث بشكل مباشر عن غياب مفاهيم الإستراتيجيا واستشراف المستقبل لدى الكثير من مكونات العقل العربي الذي يحفل واقعه برزمة من المعضلات القافزة إلى الأمام التي تحتاج إلى ما يمكن تسميته بقناعات العمل الإستراتيجي ورمي العصى إلى قادم السنين. في عصر الانفتاح الدولي والتشابك الأممي في فضاءات الدول القطرية وفي مرحلة ما بعد العولمة التي حطمت فيها كل خصوصيات وانكفاءات الدول على ذاتها، يواجه العالم العربي الكثير من القضايا التي تتطلب نظرة إستراتيجية إلى ما بعد عشرات السنين، وتتطلب أيضاً أهميتها وضع خطط لها تعتمد على قراءة صحيحة لمسارات الحدث الدولي، سواء كان ذلك على مستوى الاقتصاد العالمي وتحالفاته الضخمة والنافذة أو على مستوى الحراك السياسي والدولي وضرورة الالتفات إلى الأبطال القادمين والمرشحين على حلبة التأثير السياسي والنفوذ السياسي، بل إن الأمر يتعدى ذلك إلى ضرورة النظر إلى مستقبل الثقافة العربية في زمن تداخل الثقافات العولمي, وتحطم الخصوصية التقليدية للشعوب. لا يمكن لأي أمة من الأمم ضمان ديمومة عملها وكينونتها الإنسانية بلا خطط مستقبلية وإستراتيجية شاملة تعد العدة لعالم ما بعد اليوم تنظر بعين المحلل والراصد لتغيرات الواقع الإنساني وتطوره المضطرد لترسم مسارات تأثيرها وتواجدها المستقبلي، إن لم يكن ذلك من أجل طرح نفسها وشخصيتها الدولية كمؤثر ومنافس، فمن أجل تحقيق ولو النزر القليل من التنمية ذات الأمد البعيد التي تؤمن بقاءها واستمرارها في قادم الأيام وتكفيها شر ومخاطر الاضمحلال والاستكانة والانعزال، إن لم نقل التبعية بحثاً عن حلول لإشكالياتها التي كان يمكن أن تعالج باتباع العمل المستقبلي والإستراتيجي بعيد الأمد، والذي يتعدى طموحات الواقع الحالي إلى إنجازات مستقبل الأيام.