تناقلت وكالات الأنباء العالمية نبأ وقوع عدد من حالات الإغماء لفتيات احتشدن في أحد المهرجانات الفنية العربية وأن الكثيرات منهن كن بحاجة إلى إسعاف، ليس الإغماء الذي تعرضت له تلك الفتيات كان من أجل رؤية الجثث التي تتناثر في العراق بكرة وأصيلاً بسبب الفلتان الأمني، أو من أجل مشاهد القتل والهدم والجرف الذي تشهده الأراضي الفلسطينية جراء الاعتداءات اليومية لجنود الاحتلال، أو من أجل التأثر بجرائم المعتوهين الذين يزهقون الأرواح بغير وجه حق في مشارق الأرض ومغاربها، والتي تتكرر صورها بشكل يومي، والتي تطال الأبرياء من كل الفئات والأعمار والأجناس، بل لم تكن حالات الإغماء التي تعرضت لها الفتيات من أجل صور الجياع والمشردين والمرضى والمنكوبين على ظهر كوكبنا الذين تتزايد رقعتهم كل يوم مع تناقص رقعة الإنسانية وتضاؤل حقوق الضعفاء، واتساع رقعة الظلم في الدنيا.
وبكل أسف (حسب ما جاء في وكالات الأنباء) أن تلك الحالات التي افتقدناها في أمس المواقف الإنسانية المؤلمة كانت من أجل عيون أحد المطربين.
الأمر ليس عادياً، لعدة أسباب، لأن هذه الأمة هي أمة الوسط التي ليس فيها تطرف في أي اتجاه، ولأنها أمة مكلفة، أي بحيث تكون مشاعرها إنسانية، ويكون قلبها رحيماً، وتحس بألم غيرها، وتشارك الآخرين الأتراح والأفراح، ولكن أن تكون المشاعر من أجل المطربين وتصل إلى درجة أن يغمى على الفتاة لرؤية فنان مطرب فهذا والله إنه الانحطاط بعينه، ونريد بعد كل هذا أن نحرر أراضينا من المغتصبين، هيهات هيهات، ألم يقرأ الشباب والشابات تاريخ الأندلس ليعرفوا كيف استطاع الغرب استرجاع تلك الإمارة؟! ألم يعلموا أنهم كانوا يرسلون جواسيسهم عدة مرات ليتقصوا عن الأوضاع هناك وحينما كانت التقارير تقول إن الشباب يصلون ويقرؤون القرآن، كانت الحرب تؤجل، ويرى الغربيون أن موعد استرداد (الفردوس المفقود) مازال بعيداً، أما حينما أفادت تقارير المخابرات بأن الشباب يتغنون ويرقصون ويغازلون الفتيات، هنا قالوا بالحرف الواحد (الآن يمكن استرداد الأندلس من أيدي المسلمين) أتدرون لماذا؟ لأن الغالبية من المسلمين أصبحوا (قشرة) أي مسلمين بالميلاد وليس بالعمل والصدق والإخلاص، وها هو التاريخ يعيد نفسه، ونرى اليوم الكثير من الشباب والشابات يعطون الفن والطرب أكثر مما يستحق، بل البعض يقدسونه أكثر من المقدسات التي ربما لم ينزلوا من أجلها دمعة واحدة مقابل إغماء من أجل الطرب والمطربين، إنها مهزلة وانحدار عجيب لا يكاد المرء يتصوره أبداً، هل انحصرت ثقافتنا وعروبتنا وكرامة نسائنا العربيات في حب المطربين والتعرض للإغماء من أجل عيون مطرب؟! من نلوم في مثل هذه الحالات التي يخجل المرء أن يتناولها لولا مرارتها القاتلة، هل نلوم الإعلام الذي يشعل فتيل مثل هذه الاهتمامات يغفل عن الأولويات؟ أم نلوم المناهج الدراسية التي يجب أن تكرس القيم والروح الوطنية والمبادئ الإنسانية؟ أم نلوم التربية المنزلية التي يجب أن تجعل للثقافة الروحية مساحة في عقول النشء الذين فهم الكثيرون منهم أن الحياة هي أن تستمتع بالغناء والطرب ثم تأكل ثم تنام؟! ولا مجال للنظرة الإنسانية للغير، أو العمل من أجل النفس، أو المجتمع أو الدولة، أو ترتيب الأولويات!
نقول هذه صرعة القلوب لدى بعض الشباب والشابات التي امتلأت بكل شيء إلا بحب القيم والمبادئ الإنسانية والتراث والثقافة الأصيلة، أم هي صرعة العقول الخاوية التي تقود القلوب والمشاعر والأحاسيس إلى هذه المزالق والمهازل والانحطاطات التي لا تشبه أمة الوسط لا في الشكل ولا في المضمون؟ صحيح قد يرى البعض أن المسألة عادية قصد منها لفت الأنظار إلى تلك السلوكيات أو أن بعض الفتيات أو وسائل الإعلام تعمدت تضخيم الأمر لتسليط الأضواء عليه، لكن في اعتقادي هذه كارثة أكبر وأشد خطورة من الفعل نفسه، لأن هناك من القضايا والمحن ما هو أحق أن تسلط عليه الأضواء ويلفت إليه الانتباه. فالعذر - هنا - يكون أقبح من الذنب (كما يقال)، إذا كانت هذه بوادر (العولمة) التي يسوق لها البعض وينبهر بها البعض الآخر، فكيف ستكون نهاياتها؟ وكيف ستكون قلوب الشباب وعقولهم حينما يتوغلون في أتون (العولمة). مثل أولئك الفتيات اللاتي أغمي عليهن في أحد الاحتفالات خارج المملكة.. هل يتصور المرء أن إحداهن أو بعضهن يمكن أن يكن في مثل تلك الحالة إذا ما تعرض أحد أقاربها أو والديها لمرض ما أو لظرف يستدعي استدرار العاطفة ولين القلب؟ لا أظن ذلك لأن تلك المشاعر لأن مشاعر تقديس الطرب لدرجة فقدان السيطرة على النفس يحركها الشيطان و(الغلو) في الإعجاب و(التطرف) في الهواية، وهذه السلوكيات تعد وصمة عار في التربية والثقافة والعقلانية والوعي الجمعي العربي، لأن ثقافة (جيل اليوم) - إلا من رحم ربي - لا تتعدى إفرازات إعلام العولمة، وأغلب الإعلام العربي المنقاد بلا بصيرة وراء الإعلام العالمي بكل محتوياته وأهدافه ومراميه.
Shunkul60@hotmail.com