يعتبر التسامح فضيلة اجتماعية، يتم اكتسابها عن طريق تحمل الكثير من الاستحقاقات وقبول العديد من التحديات، بوصفها تمثل منقبة خلقية، يستطيع المتحلي بها ضبط رغباته وكبح تجاوزاته، بالصيغة التي تفرض عليه أن يدرك حجم التكاليف والمصاعب المترتبة على هذه الصفة، قبل أن ينظر إلى العائدات والمكاسب المنتظرة منها، متخذاً من إصلاح ذاته والتسامح معها سبيلاً إلى الحكم على الآخرين والتسامح معهم.
وبالطبع فإن الرئيس المتسامح، هو الذي يضطلع بمسؤوليته تجاه عمله ونحو مرؤوسيه، مدركاً متطلبات المركزية ودواعي اللامركزية، قاسياً على نفسه إلى الدرجة التي يشارك فيها المرؤوسين تبعات الأخطاء، محولاً إياها إلى متاعب يسعى إلى تخفيفها، بما يبديه من الرأفة والرحمة بهم، مثبتاً لهم أن الرحمة والتسامح لا يتنافيان مع السلطة، طالما كان في مكنة الرئيس الجمع بين الشدة في غير عنف واللين في غير ضعف.
والمرؤوس قد لا يتأثر بكثرة الحوافز ووجود المبررات، ولكنه ينقاد طائعاً للرئيس المتسامح الذي يخلق حوله بيئة مشحونة بالمحبة والثقة على النحو الذي تتقبلها النفوس دونما فرض إرادة، حيث تنفتح القلوب للكلمة اللطيفة والملاحظة المتسامحة، وتغلق أمام القسوة والعنف.
والرئيس المتسامح ينظر إلى الأمور من جوانبها الحسنة، تبعاً لطبيعة نفسه المتسامحة، مظهراً سماحة تدل على عنايته بالمرؤوسين، ودماثة تؤكد رغبته في مساعدتهم وحل مشكلاتهم، كما يبدي صراحة تنم عن شفافيته وحرصه على ما يفيدهم في إطار المصلحة العامة، وإذا ما حكم على تصرفات المقصر منهم أخذ هذه التصرفات على المحمل الحسن، مفترضاً حسن نية المرؤوس وأنه بذل الكثير من الجهد، ولكن الظروف المعاكسة له فعلت فعلها ضده.
وعلى الطرف المقابل فإن شدة هذا الرئيس تجعله يفكر بوضوح، ويحكم بواقعية متحدياً المتاعب، ومذللاً المصاعب، بالشكل الذي يمكنه من اكتشاف الحقيقة والتمسك بها بكل إصرار مهما كلفه ذلك، مع الثبات في المواقف الحرجة ومواجهة تحدياتها والصبر على مخاطرها، عارفاً نفسه، ومعترفاً بماله وما عليه في سبيل التأثير على مرؤوسه، وحثه على الإجادة في الأداء وزيادة العطاء.
والواقع أن النفس المتسامحة هي نفس حرة متواضعة يحترمها كل من يتعامل معها، ويزداد احترامه لها كلما زاد احتكاكه بها وتعرف عليها عن قرب، وهي نفس تقترب في تواضعها نحو المرؤوسين، ثم تعود إلى مكانها الطبيعي، موفقة بين اللين والشدة من جهة، والألفة وعدم رفع الكلفة من جهة أخرى، بما يؤدي إلى محبتها واحترامها، ويحافظ على هيبتها وإجلالها.
وبما أن التسامح في معناه المرغوب ومغزاه المطلوب، يشكل جزءاً من العدل، فإن الاعتراف بإنجازات المرؤوسين وإبداعاتهم الفكرية من قبل الرئيس، يعد شكلاً من أشكال العدل، وحالة من حالات التسامح ونبذ الأنانية، كما أن النظر من وجهة نظر هؤلاء المرؤوسين ومراعاة المعوقات التي قد تعترض طريقهم وتسبب لهم الفشل رغم الجهود المبذولة والإمكانات المتوفرة، ينطبق عليها المفهوم نفسه، الأمر الذي يتطلب من الرئيس عندما يحالفه النجاح أن يحرص على إظهار الاعتراف الواضح والاعتقاد الصادق، بأن ذلك مرده يعود إلى الجميع من خلال المشاركة الجماعية والجهد المشترك، متفادياً نسبة هذا النجاح إلى نفسه وجر مغانمه نحوه، متفرداً بالنتائج، وجاعلاً التضحية وقفاً عليه دون مرؤوسيه.
والرئيس العادل الذي يجيد فن التسامح، لايتهرب من خطئه، ولا يحاول التنصل من نتائج فشله، ناسباً الأخطاء إلى غيره، ومتخذاً من هذا الغير كبش فداء، بل يدفعه عدله وتسامحه إلى الاعتراف بالخطأ وتحمل النتائج، متقصياً أسباب الخطأ وحيثياته التي ربما يكون وراءها أوامر ناقصة وتعليمات مبهمة، وغير ذلك من أوجه القصور الخارجة عن إرادة المنفذ، وضمن مسؤولية رئيسه.
وإذا كان الاحترام المتبادل يشكل أساس التعامل الإنساني، وتزدهر بموجبه العلاقة بين الرئيس والمرؤوس، فإن الرئيس المتسامح يحترم مرؤوسه، حتى ولو لم يكن راضياً عنه، متعاملاً معه كما هو، مستفيداً من محاسنه، ومحيداً مساوءه، مؤمناً بأن الإنسان قابل للإصلاح، وأن الأحكام الصادرة في حقه مؤقتة، بحيث يعتريها التبديل والتعديل، كما أنه من الإجحاف والجور والأنانية ولؤم القدرة أن يسجن المخطئ في خطئه ويحكم عليه نهائياً بعدم الصلاح، في حين أن احترام الكائن البشري وتقدير إنسانيته تحتم قبوله على ما هو عليه ومحاولة إصلاحه، بوصف العلاقات الاجتماعية والمعاملات الإنسانية تقوم على الاحترام المتبادل والاعتراف المشترك.
والسيئات أكثر ظهوراً من الحسنات، حيث إن الأمور الحسنة تبدو مع كثرة الاعتياد طبيعية، بينما ينجم عن تكرار الأمور السيئة نفاد الصبر والامتعاض، والرئيس المتسامح يعمل بين وقت وآخر قائمة بالحسنات والسيئات بالنسبة لكل مرؤوس، فإن رجحت كفة الأولى نظر إلى الثانية بعين العطف، وإن رجحت كفة الثانية، بذل جهده لتصحيح الوضع من منطلق أنه رئيس، وأن واجبه هو خدمة المصلحة العامة وخدمة المرؤوسين.
وبما أن النفوس بحاجة إلى العطف والمحبة، وأن تكون مفهومة ومعترفاً بها من قبل الآخرين، فإن تفهم المخطئ والتهذيب في توجيهه يساعد على تغيره إلى الأحسن، فاللهجة المهذبة تخفف من قسوة الملاحظة وتجعلها مقبولة، والرئيس المهذب يرفع من مستوى مرؤوسه عند التحدث معه، مضفياً عليه شيئاً من سماحته وتسامحه، ومن كان غير مهذب انخفض هو نفسه.
والرئيس المتسامح هو الذي يعطي دون أن يأخذ، مدركاً قيمة الوظيفة، وأنها تكليف لا تشريف، وعبء يحمل لا فوائد تكتسب، باذلاً أقصى جهده، ومقدماً أفضل ما عنده من أجل جعل السلطة محترمة ومهابة والمسؤولية منجزة ومصانة.
وهذا الرئيس خليق به أن توحي شخصيته بالهدوء والتوازن، إذ إن من لا يضبط نفسه لن يضبط غيره، ومن لم يكن راضياً عنها أظهر سخطه على الآخرين. وقد قيل: أخضع نفسك لتستطيع إخضاع الآخرين. وفي غياب ذلك يتعذر نقل الأفكار إليهم والتأثير عليهم، والصبر أكبر ضمانة لحفظ النظام والوقاية خير من العلاج. وترتيباً على ذلك فإن الرئيس لا يلجأ إلى استخدام العقاب إلا عندما يكون لابد منه، بوصفه الوسيلة الأخيرة لحفظ النظام وضمان العدالة، رغم تألمه في قرارة نفسه وأسفه لسلوك هذا السبيل مضطراً، واضعاً في حسبانه تناسب العقاب مع حجم الخطأ والتريث والتروي قبل التنفيذ من منطلق أنه على إجراء العقوبة بعد التوقف عنها أقدر منه على ردها بعد إمضائها. وقد قال الشاعر:
ألا إن خير العفو عفو
معجل وشر العقاب ما يجاز به القدر والمصلحة العامة وسيادة العدالة يجب أن تكون لهما الألوية عند تعامل الرئيس مع المرؤوسين، وتطبيق الإجراءات الإدارية في حقهم، أخذاً في الاعتبار عوامل التشديد والتخفيف والظروف المحيطة بالمخطئ وملابسات الخطأ عند توقيع العقوبات وموقع العفو منها. وقد قيل: الاعتراف يهدم الاقتراف، والإقرار اعتذار. وكما قال الشاعر:
يستوجب العفو الفتى إذا اعترف وتاب مما قد جناه واقترفْ لقوله (قل للذين كفرواإن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلفْ
وفي الختام فإن مهمة الرئيس، نظراً لما لها من جوانب إنسانية واعتبارات اجتماعية فإن ذلك يتطلب منه التخلي عن الأثرة والمصالح الفردية الضيقة والغرور الباطل، ولن يتحقق له هذا الأمر إلا بالالتزام الديني والتخلق بمكارم الأخلاق والارتقاء إلى مستوى مهمته، ناذراً نفسه لخدمة المصلحة العامة وخدمة المرؤوسين.