يلعب الماضي دوراً كبيراً في جذب الحاضر إليه من خلال (الذاكرة الجمعية) collective memory للمجتمع، حيث يؤمن هذا الماضي جانباً من الهوية الجمعية للمجتمعات وكذلك الهوية على المستوى الفردي.
وينقسم المثقفون العرب في تعاملهم مع التراث إلى ثلاثة أقسام، وجميع هذه الأقسام تنشد الهدف ذاته وهو النهضة العربية.
القسم الأول، يرى في الثقافة الغربية السبيل الوحيد للنهوض بحال الأمة ولذلك فهو ينادي بالاستيراد الميكانيكي لهذه الثقافة برمتها وإطلاق رصاصة اللارحمة على الثقافة العربية التي يرى فيها سبب التخلف وأنها تعاني من القصور الذاتي. وسايكولوجياً يمكن فهم سبب تبني هذا الاتجاه.
فالمغلوب حسب الفلسفة الخلدونية مولع بالتقليد للغالب.
وهذا الفريق بمحاربته التامة للتراث يغفل عن أهمية التراث كمخزون ثقافي يمكن الرجوع إليه والاختيار منه بما يتوافق مع حاجات العصر.
القسم الثاني من مثقفينا نادى بالتقوقع على الذات.
فقام بدس رأسه في الرمل لكي لا يرى التطور من حوله وغرق في الماضي. ومن هنا رأى هذا الفريق (النعامي) تقديس التراث ومنع الاقتراب منه كمنطقة وجود.
وكأن التراث قد حوى كل شيء بين طياته. وتبرز من رواد هذا التيار العديد من المقولات مثل: (لا يصلح هذه الأمة إلا بما صلح به أولها).
ويجب النظر إلى هذا التيار لا يعتبر تياراً محافظاً يحافظ على الماضي اقتناعاً بأهميته.
فالأمر لا يعدو في غالبه عن محاولة هذا الفريق استخدام هذه النزعة الماضوية للحفاظ على مكتسباتهم المادية.
وهذا القسم بفعله هذا يقر بوجوده في الماضي وكأنه يتنازل عن حقه في الوجود في الحاضر. فهو لا يعترف بتقدم الحضارة ولا بتداول الأدوار الحضارية بين الحضارات التي هي في جوهرها سنة كونية. قال تعالى: (وتلك الأيام نداولها بين الناس).
القسم الثالث وهو القسم (الوسطي) ، فقد نادى بضرورة التوفيق بين الجديد والتراثي. فهو يرى ضرورة الأخذ من الحضارة الغربية مميزاتها وإضافتها على مقادير حضارتنا الثقافية لنحصل في النهاية على حضارة تراثية محدثة. وهذا القسم يعتبر الأقرب للاتجاه الصحيح من القسمين الأوليين. لكن مشروعه يعاني بعض الصعوبات. فالثقافة بنيوية بطبيعتها، حيث يصعب تقمص بعض جوانبها وإهمال الجوانب الأخرى المرتبطة. فخذ على سبيل المثال الحرية كقيمة في الثقافة الغربية. إن لها ارتباطاً عميقاً بنظرة الغربي للدين وللذات وللآخر وللمجتمع وللكون. فاستيراد هذه القيمة كما هي وبمفهومها الغربي وتوظيفها لدينا قد يقود إلى تصادم مع الجوانب الارتباطية الأخرى.
لذلك فإن الحل يكمن في نقد الذات، لأن النقد البناء هو السبيل الوحيد للتطور. فلكي ينجح المجتمع في تعزيز الأفكار التنويرية فيه فهو بحاجة إلى وضع أول لبنة في سبيل ذلك ألا وهي القراءة النقدية لتراثه (غربلة التراث). هذا هو المخرج من (تشرنق الثقافة). وهنا يجب أن نفرق بين التراث المقدس (الدين: القران والسنة فقط) وهذا فوق مرتبة النقد، وما دون ذلك من طبقات التراث (التاريخ والعادات والتقاليد...إلخ)، وهذه بحاجة إلى النقد للخروج من (تحجر الثقافة).
فمن الإشكالات الكبيرة أن يتم النظر إلى التراث وكأنه يمثل الصورة الكلية لماضي الأمة فالذاكرة الجمعية في تعاملها مع الماضي تعتمد على الرمزية. حيث تعمد إلى الاختيار من هذا الماضي وتبسيطه واختصاره وتغيير بعض ملامحه إن لزم الأمر. بل قد يتم حذف بعض جوانب هذا الماضي التراثي. وبذلك يتحول الماضي إلى أسطورة (أسطرت الماضي). وهنا وقع الكثيرون في الخطأ عندما ادعوا القدسية لهذا التراث بأكمله، حيث تحول التراث إلى محرمات يمنع نقدها أو حتى الاقتراب منها.
فمدعو القدسية للتراث لا يعتقدون بأن هذا التراث في شكله الأخير (غير المقدس) في حالة تغير مستمر. كما أن طريقة تعاملنا الرمزية مع هذا التراث تتغير. فكثير من الجوانب التي نركز عليها اليوم من تراثنا تختلف عن تلك التي تم التركيز عليها في الماضي. وبما أن الطريق الوحيدة للانتقاء من المخزون التراثي هو نفعية ما يتم اختياره لواقعنا اليوم كتطبيق عملي وليس حكماً نظرياً، يجب أن يكون هذا التراث المحيا مجيباً لمطالب عصرنا اليوم.
وكلما كانت النظرة للتراث جامدة، كلما صعب على المجتمع التأقلم مع الواقع الذي يعيشه. وهو ما يمكن أن نطلق عليه (عزلة الواقع الثقافية). هذه العزلة الثقافية مع الواقع تقود إلى تجذر الأيدولوجيا إلى درجة يصعب معها التفكير في المستقبل. وهنا يكون هذا التراث حجر عثرة في طريق التقدم. فالأفكار في حد ذاتها إما أن تكون أيدولوجيا، ويقصد بها الأفكار التي تتمثل الماضي وتريد استمراره وهيمنته على الحاضر، مهما يكن نوع هذا الماضي. أو أن تكون الأفكار (طوبى)، وهي الأفكار الاستشرافية للمستقبل.
www.dr-fahad-alotaibi.com