بعد أن أنجزت حركة (حماس) حسمها العسكري في حزيران صيف العام الماضي، انبرى قادتها وفي مقدمتهم السيد خالد مشعل ليعلنوا للشعب الفلسطيني وللعالم (أنهم قاموا بهذه العملية مضطرين لمواجهة ظروف أمنية في قطاع غزة)، متجاهلين أن حالة الانفلات الأمني مثلت حركة (حماس) وأجهزتها العسكرية ووكلاؤها من الباطن القسم الأكبر والأعظم منها، والدليل على ذلك أن قائمة شهداء وجرحى الانفلات الأمني الذي ادعته (حماس) واتخذت منه ذريعة جلهم من عناصر وضباط الأجهزة الأمنية التي عملت (حماس) وبطريقة منظمة ومبرمجة للقضاء عليها حيث أكملت تنفيذ خطتها في هجومها الكاسح عليها يوم 13-14 حزيران الماضي، وفرضت سيطرتها منفردة على قطاع غزة. والآن وبعد مرور ثمانية أشهر على هذا الانقلاب، من حق شعبنا في قطاع غزة الأبي وفي كل فلسطين وفي كل أماكن تواجده، أن يتساءل عما حققه هذا الانقلاب أو الحسم أولاً بالنسبة لحركة (حماس)، وثانياً بالنسبة للمقاومة، وثالثاً بالنسبة لأمن أهلنا في القطاع، ورابعاً بالنسبة لعموم الشعب الفلسطيني، وخامساً بالنسبة للقضية الفلسطينية.
إن على حركة (حماس) أن تقوم بمراجعة هذا الحدث الكبير الذي أقدمت عليه منفردة، وأن تقرأ النتائج التي آلت إليها الأوضاع على مستوى تلك التساؤلات الخمسة، كي تقرر إلى أي مدى يجب التمسك بعملية حسمها العسكري ونتائجها الكارثية على جميع المستويات التي أشرنا إليها. وإذا تمت القراءة للحدث على أساس تغليب المصلحة الوطنية والعربية والإسلامية فإنها ستجد نفسها لا محالة أمام خيار واحد وهو خيار الشعب والأمة وخيار الشرعية التي بقي الرئيس محمود عباس حارساً لها على رأس الهرم في فلسطين. وبعد ذلك سوف تجد حركة (حماس) أن جميع الإشكالات التي سبق لها أن أثارتها أو لا زالت تثيرها هي وغيرها من الأطراف أن حلها الصحيح يكمن في التشاور والتحاور الديمقراطي، لأن الثمن أصبح باهظاً من حساب (حماس) أولاً، ومن حساب مجمل الحركة الوطنية الفلسطينية، ومن حساب القضية والمشروع الوطني، ومن حساب الأمن القومي العربي الكبير.
وإذا حاولنا أن نقدم الإجابة وبشكل مختصر على تلك التساؤلات نجد أن الحسم العسكري قد حقق لحركة (حماس) سيطرة منفردة على قطاع غزة تمهد لها الطريق لفرض تصورها ونموذجها الاجتماعي والسياسي والاقتصادي في الحكم، والقائم على مبدأي التسلط ورفض التعددية التي طبعت الحياة السياسية للشعب الفلسطيني وللعمل الوطني على مدى عدة عقود. وهذا يعد نكوصاً إلى الوراء بدلاً من العمل على ترسيخ وتطوير الحياة الديمقراطية السياسية لنواة النظام والكيان السياسي الفلسطيني، بل تضع بذلك حداً للتجربة الديمقراطية الوليدة، وكأن (حماس) تعلن للعالم أن الديمقراطية غير مناسبة حتى في حالة فوزها في الانتخابات التي شهد العالم على نزاهتها.
وأما أثر ذلك على المقاومة فقد كان أثراً سلبياً واضحاً لأن (حماس) قد انشغلت بتأمين سيطرتها وحكمها بدلاً من أن تنشغل بتطوير المقاومة وأساليبها، بل عملت على ضبط قوى المقاومة الأخرى كي تنسجم مع شهوتها في السيطرة والحكم. فأين أصبحت المقاومة الآن بعد ثمانية شهور من حكم تفرد (حماس) في السلطة على قطاع غزة!!؟
وأما على مستوى الأمن في قطاع غزة فقد أصبح أكثر افتقاداً وغياباً وانتشرت الجريمة الجنائية والجنح الصغيرة والكبيرة حيث أصبح لا أمن ولا أمان إلا فقط لمنسوبي حركة (حماس) وأجهزتها، وأما غيرهم فأمنهم ومالهم وحرمة بيوتهم وممتلكاتهم وكرامتهم ودمهم مهدور، لا لشيء إلا لأنهم ليسوا أعضاء في حركة (حماس) أو حركة الإخوان المسلمين. فهل هذا هو الأمن الذي قامت (حماس) بحسمها العسكري من أجله، واعجباه!!
وبالنسبة للشعب الفلسطيني وقضيته الوطنية، ألم تدرك حركة (حماس) النتائج الكارثية بعد، على وحدة الشعب والقضية؟!! ألم يؤد ذلك إلى حالة من التباين السياسي والاقتصادي والاجتماعي المبرمج بين جناحي الشعب الفلسطيني في الضفة والقطاع من خلال تمسكها بنتائج هذا الانقلاب أو الحسم؟ ومن الخاسر من ذلك، أليس الشعب الفلسطيني ووحدته الوطنية وكذلك مشروعه الوطني الذي لا يمكن تجزئته؟!! ألم تكن إسرائيل ومشروعها المعادي هو المستفيد من هذه النتائج والتداعيات؟!! ألا يمكن أن يلتقي مشروع (حماس) في الحكم ومشروع الإخوان المسلمين بصفة عامة مع خطط الكيان الصهيوني؟!!
نقولها وبصوت عالٍ: كفانا دفنناً لرؤوسنا في رمال مشروع المقاومة الحمساوي أو المشروع الذي ترعاه حركة الإخوان المسلمين وتسعى لأن تأخذ قطاع غزة نموذجاً لتجربتها، لأن النتائج أصبحت واضحة وبينة لا تخفى على البسطاء منا، فهما يسجلان أكبر خدمة للمشروع الصيهوني القائم على أساس تهجير الشعب الفلسطيني ونفيه من وطنه فلسطين ونفي مشروعه الوطني المناهض للوجود الصهيوني على أرض فلسطين.
إن هذا الوضع الذي آل إليه الوضع الفلسطيني على كل المستويات بسبب هذا الانقلاب الذي مثل الحالة المثلى والفضلى بالنسبة لإسرائيل ومشاريعها وخططها في تصفية القضية الفلسطينية المهددة لوجودها، آن الأوان بعد أن ظهر للعيان زيف تلك المبررات التي ساقتها وتسوقها حركة (حماس) لما أقدمت عليه ولما تتمسك به وبنتائجه الكارثية أن تتراجع عنه، لأن التراجع في مثل هذا المقام فضيلة، وأن تعلن للشعب الفلسطيني وللأمة العربية والإسلامية خطأها واعتذارها عنه وأن تنتصر لنفسها وللشعب الفلسطيني ووحدته الوطنية ومشروعه الوطني.
أما آن الأوان أن تبلغ حركة (حماس) الرشد والنضج السياسي وأن تقوم بهذه المراجعة الواجبة شرعاً ووضعاً وتنقذ نفسها وشعبها بيدها لا بيد غيرها؟!! أم تنتظر أن ينتفض الشعب في وجهها ليسقط تفردها ويسقط مشروعها المتكامل مع مشروع الاحتلال؟! الأيام المقبلة حبلى بالمفاجآت، وأختم بقوله تعالى: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ}.
وإن غداً لناظره لقريب.
E-mail:pcommety@hotmail.com