يبدو أن علة المجتمعات الناطقة بالعربية على اختلاف ثقافاتها وتباينها، تتفق - إضافة إلى اللغة الواحدة - على تلمس الأسباب والمبررات التي تبقيها (متخلفة)، وتكره كل من يحاول تشخيص أمراضها الحضارية، بل وتعتبره عدواً يحمل معولاً لهدم هويتها المتميزة، وتفوقها على عباد الله الآخرين.
وأنا أكتب الآن بصفة منتظمة منذ ما يزيد على الست سنوات، أتلقى خلالها الكثير من ردود الأفعال، سواء تلك التي تتفق مع ما أكتب أو تلك التي تقف مختلفة مع وجهة النظر التي أطرحها، واتضح لي أن الإصرار على (الثبات)، هو الرؤية التي تكاد أن تكون (الثابتة) التي تتفق عليها ردود الأفعال الرافضة لما أكتبه من رؤى، فهناك - على ما يبدو - شبه اتفاق على عدم الاعتراف بالهزيمة، واختلاق الأسباب والمبررات ليس لتسويغ وضع الثبات فحسب، وإنما لتكريس رؤية مؤداها أن (الماضي) بثقافته ورجاله أفضل بالضرورة من الحاضر، لذلك فإن الحياة في رؤية هؤلاء هي (منحنى) يتدنى في مساره مع الزمن إلى الأسفل، فالمستقبل لا بد وأن يكون أسوأ من الحاضر، والماضي هو بالضرورة أفضل من الحاضر وهكذا؛ لذلك فهم يحنون للماضي وإلى ثقافته، وينظرون إليه (برومانسية) لا تجدها إلا عند من علق به العشق ولزمه.
مثل هذه النظرة سببها في تقديري شعور عميق - قد يكون غير محسوس - مؤداه عدم رضا الإنسان بواقعه الذي يعيشه، فيهرب إلى العيش في كنف الماضي الذي انتهى، ليعيد استحضاره، ويستحضر أبطاله، ويتحصن في أجوائه، لأنه غير قادر على مواجهة متطلبات وشروط الحاضر وتحدياته، فهو يرى - دون أن يعي في الغالب - أن أبطال الزمن الماضي، وأعلامه، هم الجديرون (فقط) بمواجهة تحديات الحاضر وليس نحن.
والإنسان المهزوم الذي لا يستطيع أن يواجه هزيمته الحضارية بواقعية وموضوعية يلجأ دائماً إلى تلمس الأسباب والمبررات من خارج الواقع، ومن خارج (الأنا)، فينجرف في نظرته هذه إلى درجة أن (الأوهام) تصبح بوصلته الحياتية في نهاية المطاف. فالذات أو الأنا، في معاييره، لا علاقة لها بما يعيش فيه من هزائم، وإنما السبب جاء من الخارج - أي من خارج الأنا - فانتهى به المطاف إلى الوضع المزري الذي وصل إليه في حاضره المهزوم الذي يعيشه ولا يعرف كيف يسعى إلى تغييره؛ لذا فإن القضاء على مثل هذه (الأوهام) المتمثلة في أن الماضي هو بالضرورة سيكون أفضل من الحاضر، وأن المستقبل سيكون بالتالي أسوأ من الحاضر، يتطلب معالجة الأسباب التي تجعل الإنسان ( يحتاج) إلى مثل هذه الأوهام كي يشعر بالرضا والارتياح والطمأنينة.
وغني عن القول إن الواقع الذي نعايشه اليوم، والإنجازات التي حققها الإنسان، وتوصل إليها العلم، في شتى مناحي الحياة، تتصادم مع هذه النظرة القاصرة التي تفترض من حيث المبدأ أن الماضي الذي كان هو أفضل من حاضرنا اليوم. فقط التفت إلى حياة الرفاهية والصحة التي يعيش فيها الإنسان اليوم وقارنها بحياة الجهل والمرض والجوع والبدائية التي كان يعيشها الأجداد في الماضي تسقط نظرية أن الماضي الذي كان هو الأفضل دائماً.