ما وقفت أمام حقول نوابغ الفكر وزعماء الإصلاح وأساطين العلماء في مكتبتي إلا كان (بكر بن عبدالله أبو زيد) جِماعَ ذلك كُلَّه. وما كان أولئك المتجاورون بمؤلفاتهم على رفوف المكتبة سواء في صدقهم، وعدم تبديلهم، وعمق معرفتهم، ودقة معلوماتهم، وسلامة مناهجهم،
وصدق تحريهم، وما كانوا على مِلَّةٍ واحدةٍ، ولا على مذهب فكري أو كلامي أو فقهي واحد، ولكن دواعي الترتيب الخاص تقتضي الجمع بين الأشتات، ف(نصر حامد أبو زيد) بكل ما هو عليه من (علمنة) و(عولمة) و(حدثنة) وتدنيس للمقدس يجاور العالم الرباني الفقيه المحدث السلفي (بكر أبوزيد) الذي قضى نحبه بعد جهاد بالقلم وتصدٍّ للمبطلين والمحرفين للكلم من بعد مواضعه بما أفاء الله به عليه من علم غزير وبصيرة نافذة، وتأصيل معرفي قلَّ أن يتوفَّر على مِثلِه مِثْلُه من علماء عصره ودعاته.
وما تركه من كتب ورسائل وبحوث ومواجهات علمية وتأصيل للمسائل والنوازل وتحرير للمصطلحات والظواهر يعد بحق تراث أمة، وميراث حضارة، فلم يكن جمَّاعاً ولا متسطحا، وإنما كان مستجيباً لحاجة الأمة متعقباً لأدوائها متصدياً لأعدائها مفنداً لكل قول مُخِل بالثوابت أو مشككٍ بالمسلمات.
ولقد كان على الرغم مما يتوهمه فيه بعض مجايليه من حدةٍ في القول وجديةٍ في المواقف أكثر توازناً ودرءاً لمثيرات الفتن، ومن ثم حاول جهده التخفيف من حدة بعض العلماء في النيل من (سيد قطب) كما نافح عن المجددين من العلماء أمثال (بن تيمية) وتلميذه (ابن القيم) وكتبه ورسائله المتتبعة للنوازل والظواهر حين تقرأ بتجرد تنبئ عن خبير بدخائل المذاهب ومنطويات الأفكار، فهو بحق عالم متمكن وأصولي أمكن سخر كافة إمكانياته لتفنيد كل البدع والمخالفات في القول وفي العمل وفي الاعتقاد ينكرها ويحرر مسائلها ويحدد مصطلحاتها ويُعري عمل الضالين من العوام وتأويل المضلين من العلماء، وما وهنت الأمة إلا من تأويل الجاهلين وتحريف الغالين وانتحال المبطلين، وكتبه تتسم بالمنهجية والمرجعية والتأصيل فهو لا يركن إلى جاهزية الأحكام، ولا يعول على إطلاقات من سلف، لا يحده مذهب، ولا يقيده اجتهاد، ولكنه وقَّاف عند النصوص القطعية، وما تركه من علم يعد امتداداً لعمله المأجور، وهو يشكل مرحلةً من مراحل التجديد الديني، وحري بمثله أن يقيل عثرة المؤسسات الدينية، وأن يخفف من أزماتها المتضاعفة، ولاسيما في زمن أصابته لوثة السياسة بتقلباتها، واستفحل فيه التطرف والعنف وحُمِّلت المؤسسات الدينية جريرة الإرهاب الذي صنعته اللعب السياسية ورمت به المؤسسات الدينية وانسلّت. وهو داء العصر ووميض نار الفتنة والمفرق لجماعات المسلمين.
وما أصاب المؤسسات الدينية من ارتباك وتفرق ووهن وتفلت على المرجعيات مرده ضيق العطن، وضعف المحصول، وقلة التجربة، وتحكم الهوى، وفقد الوعي التام بمجريات الأحداث، وصلف التعصب، والركون المطلق إلى فقه الأحكام، والتخلي عن فقه الواقع والأولويات والتمكن. وعالمٌ مثل (أبي زيد) جاس خلال المذاهب، وتعرف على مناهجها وأصولها وقواعدها ونظريات التلقي عندها، وفرق بين النصوص الاحتمالية والقطعية، وعرف مصادر التشريع ودرجاتها، استطاع أن يسهم في تفادي بعض الأخطاء التي تردى فيها من تردى عن تعصب أو جهل أو تأويل فاسد، لقد جمع بين التربية والتصفية، ووصل حباله بمصدري التشريع، ولم يتردد في نقد بعض الظواهر والآراء، كما استمات في الدفاع عن علماء السلف ومذهب السلفية، وقاد (المجمع الفقهي) وآزر (هيئة كبار العلماء) بعلمه الغزير وعقله الحصيف وتجربته العميقة.
ومع غزارة علمه، ونباهة فكره، وجلده ومثابرته، وتوفره على نوادر المؤلفات التي أمضى عشرات السنين في جمعها وتنقيحها فقد أخذه تواضع العلماء، ففي كتابه الذي يعده من مشاريع العمر يقول: (ليس لي فيها سوى: الجمع ثم الترتيب ثم التعبير ثم التلخيص، وهي أدنى مراتب التأليف)، ويقول في موضع آخر: (وجميع ما ذكرته ليس لي فيه من فضل سوى الجمع والترتيب).
وهو على سجايا حميدة من التقدير والإكبار لعلماء الأمة على الرغم من تعقبهم واستدراك ما فاتهم أو ما قصروا فيه، وهو استدراك لا يُدِلُّ به، فعن علماء الأمة الذين سلفوا يقول: (فهذا الطراز شغر منهم الزمان وطوى بساطه عنا منذ زمان) ويقول: (وما الأمر فينا إلا كما قال أبو عمرو بن العلاء -رحمه الله-: ما نحن فيمن مضى إلا كبقل في أصول نخل طوال) وهي كلمات يقمع بها استشراف النفس عما هي أهل له من مثله. ولما كان محصوله المعرفي من دراساته النظامية وغير النظامية، فقد تفرغ لدراسة علم من أعلام الإسلام جمع الله له مواهب كثيرة، فكان الفقيه والمحدث والأديب، إنه الإمام (ابن القيم) رحمه الله، وأبو زيد سار على ذات المهيع، ومن أبرز جهوده في خدمة تراث (ابن القيم) إسهامه في تقريب فقهه، فلقد استقصى فقهه واستقاه مما طبع من مؤلفاته التي نيفت على الثلاثين كتابا وسماه: (التقريب لفقه ابن قيم الجوزية) محاولا إبداء أصالته وبراعته وسعة اطلاعه، ويقع الكتاب في أربعة أجزاء، تقصى فيها أكثر من ثلاثة آلاف وثمانمائة مسألة، ولتعلق أبي زيد بإمامه فقد اجتهد في إبراز استقلاليته عن شيخه (ابن تيمية) وتصدى للأفاك (الكوثري) الذي شنع على الإمامين وقد تناول في إطار اهتمامه (الحدود والتعزيرات عند ابن القيم) كما خصه بمؤلف مستقل تناول فيه حياته وآثاره، وأبو زيد بهذه الجهود المتواصلة استطاع أن يعيد قراءة ابن القيم، وتقصيه لتراثه حفزه على كشف النسق المعرفي له، وكل مؤصل للمعارف لا يسبر أغوار الإنسان لا يكون على شيء مثير من المعرفة الدقيقة، وحصره لموارد ابن القيم في كتبه مؤشر جهد دقيق وعميق، حيث بلغت مصادره وموارده خمسمائة وتسعة وستين كتابا، من بينها الكتب التي أثنى عليها، والتي وهَّن منزلتها، والكتب التي تعقبها.
ولأنه رحمه الله - كما أشرت - كان مستشرفاً للمستقبل متخلصاً من النمطية والتناظر واجترار المتون، فقد شرع قلمه لمواجهة النوازل المعقدة، ومنها (تقنين الشريعة) وإلزام المحاكم بها أو بمذهب واحد، وقد أوسع هذه النازلة ببحث علمي أصولي مدعوم بالحيثيات، كما عدَّ (إشكالية المصطلح) من النوازل، ومن ثم عقد فصلاً ممتعا يدل على تأصيله المعرفي، ومهما اختلفنا معه في تحفظه إلا أننا نثمن صدقه وإخلاصه وسعة اطلاعه واهتمامه بأمر المسلمين.
وإشكالية (الضمان البنكي) تضاربت فيها أقوال العلماء واضطربت أحكامهم، وهي من الأمور المشتبهات أو تكاد، فمن العلماء من فتح الأبواب فأفْلت، ومنهم من أوصدها فحجَّر ووضع الناس في حرج شديد، ولقد عالج خطاب الضمان مجلياً حقيقته وحكمه، كما تقصى مسائل (المرابحة).
وإذا كان العالم الإسلامي قد ارتبك في الشأن الاقتصادي فهو أشد ارتباكا في الشأن الصحي، وبخاصة قضايا (الموت الدماغي) و(التشريح) و(زراعة الأعضاء) و(أطفال الأنابيب) وهي من معضلات النوازل التي خصها ببحوث عميقة شاملة شافية، كما تناول ما دون ذلك من النوازل ك(حق التأليف) و(الحساب الفلكي) و(البوصلة) وهي قضايا تشغل كافة المؤسسات العالمية مع بساطتها، ولكنه بحرصه على التنقيب والجمع سبق إليها وحاول تحرير مسائلها والجنوح إلى ما يطمئن إليه من الأحكام، وله رسائل لطيفة ومهمة شاعت في كافة الأوساط العلمية، وأملي أن أعود إليها بالدراسة لأهميتها وعمق أثرها، ومن أهمها:
- حراسة الفضيلة
- الرد على المخالف
- تحريف النصوص
- لا جديد في أحكام الصلاة
- تصنيف الناس
- خصائص جزيرة العرب
- درء الفتنة عن أهل السنة
- براءة أهل السنة من الوقيعة في علماء الأمة.
وله عشرات الرسائل التي تعد تحريرا لأحكام النوازل في العادات والعبادات والمعاملات، وقد جمع طائفة من تلك الرسائل المتفرقة في موسوعة (الردود) ومن لطائف كتبه (النظائر) وهو من التقميشات التي يعمد إليها بعض القراء، وأبو زيد رحمه الله مغرم بالتقميش وجمع الأشباه والنظائر، وكل قارئ منقب يقيد ما يمر به من شوارد حتى إذا اجتمعت عنده القصاصات ضم بعضها إلى بعض وأخرجها في رسالة، وله في علم الحديث وأصوله مؤلفات ورسائل تسد خلالا وتقرب معارف، من أهمها وأجدرها بالاقتناء والقراءة كتاب (التأصيل لأصول التخريج وقواعد الجرح والتعديل) وهو كتاب يضاف إلى مئات الكتب في هذا الفن، ولكنه يمتاز بالإيجاز غير المخل والتبويب الحائل دون التشتت، وله إلى جانبه (معرفة النُّسخ والصحائف الحديثية) و(التحديث بما قيل لا يصح فيه حديث) لخص فيه ما سبق من مؤلفات وأضاف إليه تقميشات مهمة، وتلك مراجع مهمة لا يقدرها قدرها إلا الذين يغالبون عَصِيَّ المسائل، ومن لطائف مؤلفاته التي تدخل في منهج المعاجم (معجم المناهي اللفظية) وذيله (فؤائد من الألفاظ) وقد استدرك عليه الأستاذ (سليمان الخراشي) (المستدرك على معجم المناهي اللفظية).
والعلامة أبو زيد برحيله سيترك فراغاً أرجو أن تجود الأمة الولود بمثله، ليصل ما انقطع ويتصدى للمخالف بأسلوب علمي ينتزع القناعة ولا يفسد للود قضية.. ولنا عودة إلى تراثه المطبوع والمخطوط.