في زمن الحلم الأكاديمي.. حين كنا على مقاعد الدراسة كانت الأحلام تستبق الواقع وتقفز عليه!! والتنظير كان سيد الموقف بلا منازع، وبعض زملاء الدراسة ممن أوغل التنظير صدورهم كانوا يتساءلون حول جدوى ما ندرسه في كليات إدارة الأعمال في الغرب، وهل يمكن تطبيقه على واقعنا؟! كان أمثلنا طريقة حينها يقول: إن ما ندرسه قد يفتح نافذة لنا للمساهمة في تطوير حل محلي!! ورغم ذاك أعترف أني كنت أشعر حين أقرأ بعض الكتب أو أستمع إلى بعض المحاضرات التي تتحدث عن المؤسسات الصغيرة والمتوسطة - تخصص الدراسة - بأنها تتحدث عن عالم اقتصادي آخر لا يمت إلينا بصلة!! ذات صباح أكاديمي تحدث الأستاذ عن المؤسسات الصغيرة والمتوسطة وأهميتها في الاقتصاد.... عن دورها في خلق الوظائف... عن مساهمتها في بناء تقنيات محلية ومهارات احترافية يمكن أن تكون نواة لصناعات جديدة... عن دورها في دعم الشركات الكبرى وجذب الاستثمارات الأجنبية!!... كان يتحدث وعيناه تلمع فيها واجهات شارع (payers Road) حيث مئات المحلات العائلية الصغيرة التي تشرق فيها كل صباح ابتسامات الآباء والأمهات والأبناء والبنات في منطقة الويست اند في مدينة غلاسكو الاسكتلندية، حيث تشكل تلك المؤسسات الصغيرة 95% من حجم الاقتصاد!!.. كانت عيني في الوقت نفسه تغرورق بذكريات المشاريع التي تقبل لعدم التفرغ في بلادي، تلك التي تلجها فلا تجد فيها من رائحة الوطن سوى ورقة التصريح محبوسة في إطار صدئ على الجدار!! محلات تمثل أوكار التدريب على الغش لعمالة أجنبية تقدم إلى المملكة دون أدنى مستويات التأهيل لتجد السباك مندوباً للمبيعات، والراعي طباخاً، والسائق مستشاراً للتدريب!! كان الأساتذة يلحون على دور المؤسسات الصغيرة والمتوسطة في خلق الوظائف وفي خلق تنوع اقتصادي يخدم الاقتصاد ويؤكدون أن مناخ البطالة يمكن أن يخلق آلاف الوظائف للشباب الذي يتطلع إلى المشاركة بالإنتاج والتجديد والابتكار من خلال مشاريع خاصة صغيرة تساهم في تحسين مستوى الحياة وتطويرها... يرسمون صورة عن الأسرة التي تنشئ مطعماً ويعمل فيه أفرادها فتذوب فيه حدود المنزل والمشروع!! يستعرضون تجارب المتاجر الصغيرة التي يعمل فيها أصحابها ثم تحولت إلى شركات كبرى.. عن تلك الأكشاك الصغيرة المليئة بأحلام الشباب وطموحاتهم..... كنت أحاول حينها أن أقترب بتلك الصورة لمقارنتها بواقع مؤسساتنا الصغيرة والمتوسطة فلا أجد - وللأسف - سوى خلق الفيز وليس الوظائف إلا من رحم ربي!! فكل مشروع صغير يبدأ على أكتاف آسيوي أو اثنين.. لا أعتقد أنها مبالغة حين أقول: إنه لا يوجد من روح المؤسسات الصغيرة شيء في شوارعنا!! جب بسيارتك المدن فلن تجد سوى السراب من كل ما تتحدث به أدبيات SMEs أو المشروعات الصغيرة والمتوسطة في كتب الإدارة والاقتصاد!!
دخل إلى مكتبي ذات يوم أحد الشباب الذين استفادوا من أحد برامج الدعم لهذه المنشآت وقد بدأ مشروعه الصغير كشركة نقل صغيرة للطلاب والطالبات... حدثني عن فكرته وحماسه وحجم الدعم الذي تلقاه وأطلعني على صور المشروع وبداياته، كانت كل صورة تم التقاطها تتحدث عن حلم ومشهد يختزل كل نشوات الانتصار على العقبات التي تواجه المنشآت الصغيرة... وفي غمرة فرحتي بحديث ذلك الشاب أخبرني أنه يسعى للتوسع... وحينها وضعت يدي على قلبي لأني أدرك أن توسع المنشآت الصغيرة في اقتصادنا المحلي وخصوصاً خطة التوسع الأولى تعني خلق فيز جديدة وعمالة أجنبية تثقل كاهل الاقتصاد !!
لم أكد أستوي على كرسي مكتبي حتى قال بأنه يسعى لتوظيف سائقين أجانب يساعدونه على الوفاء بالعمل بعد توسعه، ويتمنى أن تتفهم وزارة العمل موقفه فتمنحه الفيز المطلوبة!! من أجل واقع أكثر فاعلية للمنشآت الصغيرة والمتوسطة، لابد من تسهيل إجراءات إنشاء المشاريع للشباب وتمويلهم، وأقترح على جميع البرامج والصناديق التي تقدم الدعم لمثل هذه المشروعات بأن تطالبهم باقتصار التوظيف حين تنجح مشاريعهم وتتوسع على الشباب السعودي فقط؛ لتكون المنشآت الصغيرة كبيرة بتحقيق أحلام الوطن وتعود إلى دورها الحقيقي بخلق الوظائف التي تساهم في دعم الاقتصاد الوطني وتقويته لا إنهاكه بخلق الفيز!!