هناك من يُعيد احتقار المرأة، ومصادرة حقوقها الإنسانية، وقمعها، ومحاولة إخراجها من منظومة الإنتاج الاقتصادي في المجتمع المعاصر إلى (ثقافة الصحراء) التي هي المصدر المرجعي لأغلب عاداتنا وتقاليدنا في المملكة. هذه الثقافة - كما يقول الدكتور جابر عصفور في كتابه (غواية التراث) - تعد المرأة: (مصدراً للغواية والشر) فهل هذا صحيح؟
الأستاذ الدكتور سعد الصويان هو أحد الباحثين في المملكة في ثقافة الصحراء تطرق إلى هذا الجانب، وأكد أن ثقافة امتهان المرأة ثقافة (طارئة) على ثقافة الصحراء وليست أصيلة، يقول: (لم يكن الرجل في الزمان السابق ينظر إلى جمال المرأة فقط، أو أنها مجرد وسيلة للإنجاب ورعاية شؤون البيت، بل كانت بالنسبة له رفيقة العمر وشريكة وصاحبة الرأي السديد والمشورة الصائبة، وكانت علاقتها مع زوجها تقوم على الإخلاص والاحترام المتبادل). ويسوق الدكتور الصويان أمثلة من الشعر الشعبي و(السوالف) تؤكد ما يذهب إليه سواء في البيئة الحضرية أو البيئة البدوية.
وغني عن القول أن الحاجة الاقتصادية، والتكافلية، أو (شروط البيئة) هي التي تحدد عادات وتقاليد الإنسان الذي كان يعيش في الصحراء، أو بلغة أدق: شروط (ثقافته) الحياتية؛ فلا يمكن تصور مجتمع يعتبر نصف أفراده النصف الآخر مصدراً (للغواية والشر) كما يقول جابر عصفور، ويكون قادراً اقتصادياً على التكافل والتعاون في مواجهة ندرة الموارد التي هي من أهم سمات العيش في الصحراء. فالمرأة التي كانت تعيش في البادية كانت تقوم بما يوازي ما يقوم به الرجل من مهام تقريباً، سواء في الإنتاج الاقتصادي (الرعي، الزراعة، النسيج، إعداد الغذاء، الاحتطاب، البيع والشراء وغيرها)، أو الشق المتعلق بالحياة الاجتماعية (الكرم، إغاثة المحتاج، الشعر والأدب، وغيرها)، الغزو والقتال والذود عن ممتلكات (القبيلة - البلدة) هي التي كانت (ربما) من اختصاصات الرجل، وحتى في هذا الشأن سمحت أعراف الصحراء (أحياناً)، وفي سوابق تاريخية للمرأة بأن تتولى هذه الشؤون أيضاً؛ كما في تولي المرأة العظيمة والخالدة في تاريخنا (غالية البقمية) قيادة الجيوش (من الرجال) ضد جيش طوسون باشا في الدولة السعودية الأولى، وألحقت بالغزاة هزيمة منكرة كما يؤكد ذلك أكثر من مصدر تاريخي، وأهمها تاريخ الجبرتي (المصري)، وهي حادثة تحمل الكثير من الدلالات.
جابر عصفور وغيره من الباحثين سمحوا لأنفسهم بإطلاق أحكام تقريرية تصل في لغتها وسياقاتها إلى درجة القطعية دون أن يكلفوا أنفسهم فهم هذه المجتمعات وقراءة تاريخها الثقافي قراءة متفحصة، بل لن أكون مبالغاً لو قلت إن فهمهم في ثقافة الصحراء وأنماطها كان فهماً مرتبكاً ناقصاً ومشوهاً لا يرقى في أفضل حالاته إلى مجرد انطباعات تفتقر إلى الدليل العلمي.
بقي أن أقول إن باحثاً لا يكلف نفسه عناء التأكد مما يقول، ويسمح لنفس، أن يطلق الأحكام على عواهنها، يشير إلى المأزق المعرفي الذي يعاني منه أغلب كُتَّاب الشعوب الناطقة بالعربية، الأمر الذي يجعل أحكامهم، بل وأبحاثهم تكتنفها الكثير من الشكوك،وبالذات فيما يتعلق بسلامة المقاصد.