شَعَرَ موظف جاد منتج، مثابر حريص على وقته ومستلزمات عمله، بضيقٍ من زميله الذي لا يخجل أبداً من تقاعسه، وقلة إنتاجه، وعدم مبالاته بالوقت ومستلزمات المكتب، ناشد الموظف الجاد زميله (المهمل) بأن يفي بواجبات عمله جهداً ووقتاً، وأن يوليه الاهتمام والعناية اللازمة لإتقانه وتجويده، لأنَّ تحقيقَ الآمال مرهونٌ بإتقان الأعمال. |
ابتسم الموظف المهمل وقال: دعك من هذه الفلسفات الفارغة، والشعارات البائسة، ما الفرق بيني وبينك؟، المرتبة واحدة، والراتب واحد، والتكاليف في فترة المساء متساوية، وبعلاقة خاصة أستطيع أن أتقدم عليك وأرتقي إلى المرتبة التالية، وأنت في مكانك تراوح، دعني وشأني، فلديَّ من المُسوِّغات ما يجعلني مطمئناً إلى سلامة منهجي في العمل، وأنت سِر خلف سراب شعاراتك، والعبرة بالنتائج لا بالتمنيات. |
انكفأ الموظف الجاد على نفسه، وتأمل واقع الحال في الإدارة التي يعمل فيها، وتبيَّن له صِدق ما قاله زميله المهمل، استعاذ بالله من شر الوسواس الخناس، وتذكر قول أبي العتاهية: |
وموعد كل ذي عمل وسعي |
بما أسدى غداً دار الثواب |
نِعم الدار، ونِعم الثواب المنتظر، ففيهما العزيمة والعزاء، لقد أمر الله بني البشر أن يسعوا في الأرض كي يعمروها بالجهد والجد، والإخلاص والصدق، ولكن النفوس الضعيفة تأبى إلا أن تساير شهواتها في الميل إلى التراخي والإهمال وعدم المبالاة، ولهذا الميل أسباب وعوامل متى ما تفشت في بيئة فَقُلْ عليها السلام، يأتي في مقدمتها خوف المعاد وخوف السيف. |
فخوف المعاد يجعل المسلم يراقب الله ويخشاه في السر والعلن، ويستشعر أن الله يرى كل حركاته وسكناته، وبالتالي لا يمكن أن يفرط في ثانية من وقته، ولا يتوانى في إنجاز أعماله وفق غاياتها، يحافظ على بيئة عمله كما محافظته على مقتنياته الخاصة. |
وخوف السيف، يتمثل في الهاجس الذي تجسده السلطة الواعية المتابعة، القادرة على إدارة العمل وضبطه والسيطرة على مجرياته، وتتجسد سيطرة السلطة وتترسخ في العقول والوجدانات من خلال بث ثقافة (الحزم والعزم) والمثابرة عليهما، الحزم في مواجهة المخالفات، والعزم على تطبيق العقوبات، يقول عمرو بن يحيى: |
الحزم قبل العزم فاحزمْ واعزم |
وإذا استبان لك الصواب فصمم |
أما إذا تغلب الإهمال على إرادة السلطة، وغلبت العاطفة العقل، فتلك دلائل الفشل ومؤشراته، يقول عباس العقاد: (ما الإرادة إلا كالسيف يصدئه الإهمال، ويشحذه الضرب والنزال)، ويقول مايكل كولنز: (كل إرادة لا تتغلب على العاطفة تنهار وتفشل)، هذا في حالة التسليم بأن السلطة تمتلك مقومات الإدارة والإرادة ومهاراتهما، أما إذا فُقِدَتْ هذه وتلك، فعلينا أن ننتظر المزيد من صور الإهمال والفشل والفوضى، وما صورُ الإهمال المخجلة التي ينوِّه عنها بين حين وآخر في الصحف عن ممارسات بعض الأجهزة الحكومية، إلا فيض من غيض الفشل الحاد بسبب التسيُّب وضعف سيف السلطة الذي علاه الصدأ، لأنه غيَّب المحاسبة والمجازاة، عن منهج تسيير العمل وضبطه. |
يقول سيروس: (مَنْ يتردد في إنزال العقاب، يضاعف عدد الأشرار)؛ يبدو أن إنزال العقاب أمر متعذر، فعوضاً عنه، لا أقل من أن تُطبق مقولة علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (أزجر المسيء بثواب المحسن)، ففي هذا ما يزجر الأشرار، وينبه المهملين، ويحفِّز الجادين المخلصين على المزيد من المثابرة والإنتاج. |
|