لا شك أن النفس البشرية تواقة لتحقيق المزيد من الثراء، لا للثراء نفسه بل لما يحققه للنفس من متعة الامتلاك وإشباع الرغبات، ويقول في ذلك المولى عز وجل وهو الأعلم بخلقه: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا}، ولعل هذا ما نقرأه في هذه الآية فقط، ولكن لابد أن نعمل العقل في المسلك الذي علينا أن نسلكه لكسب ذلك المال حتى لا نقع في ورطة قد تكون النجاة منها مستحيلة، خصوصاً إذا لم تكن لدينا المؤهلات التي تؤهلنا لقيادة مركبة هذا السلوك بأمان حتى تصل بنا إلى الهدف المحدد.
بالأمس القريب فتحت سوق المال أبوابها على مصراعيها، وبين أبواق الدعاية المسموعة والمرئية طارت أحلام الناس فوق السحاب، لا بل طارت عقول بعضهم، أصبح الكل تواق أن يلعق هذا العسل، وإن أمكن أن يحصل على المزيد والمزيد، لكن لم يكن أحد ليدرك أنه العسل المر، عسل لدى الكاسبين ومرارة ما بعدها مرارة للخاسرين.
لقد راعني سقوط بعض أصحاب الفكر المستنير إلى الهاوية، فإذا كان هذا ما آل إليه مصير بعض المتعلمين والمثقفين، فكيف يكون مصير البسطاء الذين لا يملكون سوى جدران تسترهم، باعوها ليحصلوا على السيولة اللازمة لدخول هذه اللعبة الساحرة، غامروا بمستقبلهم ومستقبل أولادهم، لا بل قامروا بما في اليد ليحصلوا على ما في أيدي غيرهم أو في أحلامهم، فتحولوا من أصحاب دور وفلل إلى مستأجرين، والأدهى والأمر من امتد بلاؤه إلى أعز ما يملك المرء في هذه الدنيا بعد دينه، إلى صحته، فأصابته جلطة أو نوبة قلبية أو السكري، نسأل الله العفو والعافية.
إن للنجاح في تحقيق ثروة لا بأس بها بريق يأخذ بالعقول والألباب، لكن النجاح لا يأتي دوماً مصادفة، فالعقل والمنطق لا يقبلان ذلك ولا يسلمان به، إذ لابد أن تتسق المقدمات مع النتائج بل وتدل عليها، فالجراحة الناجحة لا يقوم بها إلا طبيب جراح، أي متخصص في هذا النوع من العمل، والإنسان أرفع من أن يستمر في دائرة التجربة والخطأ غير مأمونة العواقب، لأنه يتنازل بذلك عن إنسانيته ليرتد إلى مرتبة أدنى من مرتبة الإنسان الذي كرمه الله بنعمة العقل والتمييز وهما كالبصر والبصيرة، ولا أدعي لنفسي أنني أعلم الكثير عن سوق المال، أو أنني خير من هذا أو ذاك، لكنها مجرد قراءة للواقع الذي أصبحنا نلمسه، في أصدقائنا بل وفي بيوت بعضنا، أصبح خط الإنترنت هو وصلة الفرد بالعالم، ترك بعضنا عمله الأساسي وتفرغ إلى عمل جديد لعله يربح منه ما يحقق آماله وأحلامه التي لا تتوقف عند حدود المنطق الذي يقبله العقل.
لقد خلق الله عز وجل هذه الأرض وأودع فيها أسبابها، فمن جد وجد ومن زرع حصد، والزرع والحصاد عند أهل الزراعة يستغرق وقتاً وعملاً وخبرة، ولنناقش الأمر بواقعية أكثر، فعلى الزارع أن يحرث الأرض ويعدها للزراعة ثم يغرس أو يبذر ثم يرعى زرعه إلى أن يستوي على سوقه، والرعاية لا تتوفر إلا لدى أهل الخبرة سواء كان الزراع أنفسهم أو تلمس الخبرة لدى أهلها من المهندسين والفنيين، ومن ثم يكون نتاج الأرض وفيراً.
والاستثمار في الأوراق المالية وإن كنت أتحسس منه بعض الشيء، مثله مثل الزراعة، لكنه لا يتطلب جهداً عضلياً، بل يعتمد على الفكر المنطقي والعلم بأصول اللعبة والإلمام بأصول الاقتصاد بالإضافة لتوفر السيولة اللازمة لذلك.
قد يقول البعض إذا أردت أن تنجح في الاستثمار في الأوراق المالية يكفيك أن تطالع كل يوم حركة السوق، وأرد قائلاً: إن هذا لا يكفي، فالأسهم جزء من رأس مال شركة، ورأس المال يقابله أصول هذه الشركة وأنشطتها الصناعية أو التجارية التي يترتب عليها خلال فترة محددة إما نجاح وتحقيق أرباح أو إخفاق وتحقيق خسائر، لذلك على المستثمر أن يطالع المراكز المالية لهذه الشركات أولاً بأول، والتي قد تنشر على فترات دورية أقصاها عام، وعليه أن يدقق في مسيرة هذه الشركة إذا كانت من الشركات القديمة في السوق، ونتائج أنشطتها، وألا يشتري سهمها بأكثر من قيمته الفعلية لا السوقية، لأن أسعار السوق تتحقق عن طريق العرض والطلب، وقد يكون الطلب مفتعلاً أو ناتجاً عن جهالة أو أخبار وهمية روج لها سلفاً بهدف رفع قيمة هذه الأسهم كما يفعل بعض الهوامير، والعكس قد يكون هناك زيادة في عرض الأسهم لسبب أو لآخر بعيد كل البعد عن القيمة الحقيقية للسهم لأسباب سياسية أو غيرها كردة فعل لمسار الاقتصاد العالمي الذي تقوده الاقتصاديات الكبيرة الهائلة مثل اقتصاد الولايات المتحدة الأمريكية، أو مضاربات في المراكز المالية العالمية لغير أسباب منطقة، فتهبط قيمة الأسهم عن القيمة العادلة لها، وهنا على المدقق العاقل أن يشتري بناء على وعي ودراسة متوقعاً زيادة قيمة السهم الذي يقبل على شرائه في المنظور القريب بعد زوال أسباب هذا الهبوط المفاجئ، المهم أن تكون رباناً يحسن قيادة سفينة أمواله في خضم هذا البحر الهائج المتقلب، فتصل إلى بر الأمان، ولا يكون الربان رباناً إلا بعد تعليم وتدريب واجتياز الاختبارات بنجاح.
يقول لي أحد المتعاملين في سوق الأسهم، كلما دخلت بقوة أكثر كلما حققت أرباحاً أكبر، وأنا أوافقه الرأي، فصاحب المائة ألف لا يربح مثل صاحب المليون، ولكن أخي الحبيب، الربح في الأسهم عائد مخاطرة لابد أن تكون محسوبة، والنصح واجب، ونصيحتي لوجه الله تعالى، لا تضع البيض كله في سلة واحدة، حتى إذا زلت قدمك لا تكون قد خسرت كل ما لديك فتقعد ملوما محسورا، ولا تنسى أن الطمع يقل معه ما تجمع، ومن تطلع في يد غيره لا ولن يشعر بالسعادة مطلقاً.
فالحذر الحذر يا أخوة العقيدة والإيمان من التأثر بآراء غير مدروسة من آخرين سواء كانوا أصدقاء أو طالبي شهرة الإعلام مثل من نراهم من المحللين عديمي الخبرة بأصول اللعبة ودورات الاقتصاد العالمي، فسوق المال تذكرني بالصيد في الماء العكر، وأختم قولي بالدعاء لمن غامر وخسر اللهم اربط على قلبه بالإيمان وعوضه خيراً، واهدِ من هم في الطريق واكتب لهم الرزق الوفير، واهدِ يا كريم هوامير السوق فلن ينفعهم ما يقومون به في سبيل تكديس الأموال على حساب الضعفاء، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.. آمين.