يطرح كثير من المفكرين والباحثين مصطلح (تواصل الثقافات) ويعدّه مفتاحاً سحرياً وحلاً جذرياً للخلافات الدولية، وبناء مناخ جديد من السلام العالمي. لكن المشكلة أن المشاورات السياسية واجتماعات السلام والقرون الطويلة، لم تُظهر أي تغيير جذري، أو تقدم حقيقي يذكر في ظل الخلافات المتجددة يومياً. فمن الواضح أننا نستضيف، ونشارك، ونعلق الآمال على قمم سياسية واجتماعات ثنائية نقوم فيها بمناقشة الموضوعات والأحداث ذاتها، ونعيد فيها طرح الحلول ذاتها، ونلوم فيها الجماعات والتنظيمات ذاتها على تعثر التنفيذ.
إذن لا بد من أن يكون هناك تحرك على جميع المستويات في مختلف المجتمعات العالمية ذات العلاقة وغير ذات العلاقة للعمل على تواصل الثقافات؛ فصداقة طفل في مدرسته مع طفل آخر ذي ثقافة أخرى من مجتمع مختلف قد لا تقل أهمية عن علاقة زعماء دول ببعضهم البعض، بل قد تكون أقوى تأثيراً على المدى البعيد.
ولا يعني تواصل الثقافات بالضرورة إجبار جميع الأطراف على الاتفاق على جميع الأصول والمعتقدات. إن اختلافاتنا الاجتماعية والتاريخية هي اختلافات مهمة، ووجودها ثمين وله تأثير عظيم. ولن نستطيع رسم الصورة الكاملة لحياتنا من غير الاستفادة من جميع التجارب والخبرات المختلفة، ووجهات النظر المتناقضة. بل يجب أن تكون اختلافاتنا أساس تقبلنا لغيرنا وفهم آرائهم وتقديرها، والعمل على تعزيز المشترك فيها.
إن المشكلة في المشاورات السياسية القائمة والأجندة الدولية هو أنها ستظل دائماً (تجارة) إن صح التعبير، تجارة تحاول إرضاء جميع الأطراف بعدد من الشروط التي تفتقر إلى الواقعية، والتي تحل عقدة بسيطة من الخلاف وتخلق عدداً جديداً من الاختلافات والعقد.
نحن نشهد اليوم تطوراً عظيماً في وسائل الاتصال والتواصل بين الأفراد في جميع أنحاء العالم في ظل الثروة الهائلة في الاتصالات والمعلومات. إن الجدران التي طالما حجبت أعيننا عن رؤية الواقع بسبب السياسة المزيفة لم تعد قادرة على حجب رؤيتنا للأحداث اليومية العالمية، فالعالم لم يكن يوماً من الأيام أكثر اتصالاً من يومنا هذا. فجيلنا لديه جميع المقومات لإلغاء جميع الصور النمطية عن مجتمعاتنا الإسلامية والعربية، لديه القدرة على الاستفادة من الخلافات القائمة لبناء مجتمع عالمي يسوده السلام.
وفي هذا المقام، فإنني لن أنسى الرحلة التي أشرف عليها صاحب السمو الملكي الأمير تركي الفيصل آل سعود -يحفظه الله- أثناء عمل سموه سفيراً لخادم الحرمين الشريفين في لندن، الرحلة التي جمعت عدداً من طلاب مدارس الملك فيصل الرائدة بالرياض مع نظرائهم من إحدى المدارس البريطانية إلى القطب الشمالي، وهي رحلة أثبتت لنا صحة هذا المصطلح وثبوت فاعليته. فقد رأينا مجموعتين من الطلاب من مملكتين في منطقتين مختلفتين، لكل منهما تاريخها وثقافتها التي تؤثر على حياتها اليومية، رأيناهم بكل ثقة وفخر يتبادلون قصصاً تاريخية عن مجتمعاتهم، واستمعنا إليهم يتحدثون عن طموحهم لخلق عالم أكثر أماناً، يتحدثون عن أحلامهم في أن يصبحوا يوماً قادة مؤثرين في مملكاتهم. رأيناهم يتبادلون أعلامهم بكل أمل. وإنني لعلى يقين تام بأن هذه التصرفات البسيطة الصادقة، والتفهم والصداقة التي قام المشاركون ببنائها، سيكون في المستقبل القريب -وعندما يتولى جيل المشاركين صناعة القرار في دولهم- أثر على صناعة السياسة في العالم بشكل جذري وملحوظ.
إن تواصل الثقافات وحوار الحضارات من العوامل الرئيسة في بناء مجتمع عالمي يخلو من الصور النمطية و(ازدواجية المعايير) التي تؤثر سلباً على تقدمنا. وإن قبولنا الآخر هو مفتاح قبول الآخر لنا. وعندها سنختصر على أنفسنا عناء اختيار الجهة التي سنجلس فيها إلى طاولة المفاوضات، وسنتشارك جميعاً في الجهة ذاتها، ونتحد في حل التحديات العالمية التي تواجهنا جميعاً.