يكاد لا يخلو حديث الناس في الآونة الأخيرة من محاور عديدة أهمها الفقر والغلاء وارتفاع الأسعار وزيادة الرواتب والجريمة وازدياد معدلات السرقة. يحاول البعض أن يحمِّل بعض الجاليات الوافدة السبب في ارتفاع حوادث السطو والسرقة، وأنا لا أنفي أن.....
.....يكون لهم دور في ذلك، ولكن السعوديين أيضاً متورطون في ارتكاب مثل هذه الجرائم، فالأحداث تثبت أن هناك محترفين من أبناء الوطن متمرسون في عالم الجريمة، ويشكلون نسبة تنذر بخطورة الأمر. فالمجتمع تغير، أو بمعنى أدق انتقل إلى مرحلة جديدة، تتميز بالتفاوت في معدلات الوعي الحضاري، وبخاصية التمرد على نظام القيم والأخلاق..
لكن لماذا يحدث مثل هذا.. ونحن نحتفل باقتصاد متين وبدخل مالي ليس له مثيل في تاريخ الاقتصاد الوطني؟! وهو ما يدفعنا للتساؤل عن الأسباب. وهل ارتفاع الهوة بين الغنى والفقر أو انفراد فئات بالمال وبفرص التعليم العالي والوظائف المهمة، وتهميش فئات أخرى هو العامل الجذري في ما وصل إليه المجتمع في بعض المناطق..؟! من الشجاعة أحياناً مواجة الواقع ومحاولة تصحيحه، وإن كانت كبد حقيقته هي الألم والحسرة.. والندم!
حدث شيء مثل هذا كثيراً في تاريخ الإنسانية، وعلى سبيل المثال في الولايات المتحدة عندما كانت الطبقات الدنيا من المهمشين الأفارقة والمهاجرين الجدد من الأسبان والآسيوين وغيرهم من الأقليات لا يحظون بفرص التعليم في الجامعات وبالعمل في مهن تتميز بالدخل العالي، مما أدى إلى حدوث كارثة في الأجيال اللاحقة، إذ ارتفعت بينهم معدلات الجريمة وإدمان وتجارة المخدرات، وحدثت مظاهرات دموية في بعض الولايات..
كان الثمن غالياً عندما حاولت الإدارة الأمريكية إصلاح الأمر متأخراً، وكان عليها اتخاذ خطوات إستراتيجية، منها رفع الحد الأدنى للأجور، وتحسين وضع الضمان الاجتماعي، وتأمين العناية الصحية للفئات غير القادرة على دفع رسوم التأمين، وإلى حد تخصيص مقاعد أكثر للأقليات المهمشة في الجامعات الأمريكية المرموقة، وإن كانت معدلاتهم ودرجاتهم أدنى بكثير من أبناء الطبقات المفضلة في المجتمع الأمريكي.. وذلك من أجل رفع معدلات الوعي لديهم، كذلك العمل على تنمية قدراتهم الفردية من أجل إبراز قضاياهم الاجتماعية من خلال صناديق الاقتراع وعبر وسائل التعبير السلمي عن مشكلاتهم اليومية..
من الضروري أن لا نعتقد جازمين أن الجريمة لها علاقة بالفطرة أو الفئة أو الأقلية، وإلا دخلنا في دائرة العنصرية من أوسع أبوابها. فالجريمة سلوك أو ظروف تُجبر الناس على اعتناقه من دون وعي. كذلك يزدحم عالم الجريمة بأنماط أخرى أكثر تنظيماً، وقد تكون تلك الجرائم الصغيرة التي تظهر أخبارها يومياً على صفحات الجرائد اليومية نتيجة لجرائم أكبر وأكثر تعقيداً. ففي عصور الإقطاع والاحتكار ازدادت معدلات الجرائم الصغيرة وتتكررت أحداث الشغب والفوضى.. نتيجة احتكار الثروة والمال والسلطة.
على القوى المركزية أن تعي ما تسعى إليه، فمزيد من الخصخصة والرأسمالية من خلال تحرير الاقتصاد من القيود، يعني مزيداً من العواقب والنتائج السيئة للغاية، ما لم يتم دراسة تلك الخطوات بعناية فائقة، وعبر منهج التنمية المستديمة لجميع فئات المجتمع من دون إقصاء.. إذ لا يمكن على الإطلاق للمركز أو لقوى الاقتصاد وشركاته وسلطته أن تنمو بتسارع بلا رقيب، بينما تترنح الأطراف في مستنقع الجهل والفقر، بالتأكيد ستكون نهايته مأساوية مثلما حدث في دول أمريكا الجنوبية وغيرها من دول شرق أوربا.. بؤر ثرية جداً وقاعدة شعبية معدمة من ضروريات الحياة ومستلزماتها اليومية... كانت النتيجة فوضى وجرائم أكثر....
القرارت الأخيرة والمشروعات التنموية في التعليم والصناعة والاقتصاد في الوطن نابعة من وعي لهذه المعضلات، فالحرص على توزيع المشروعات الكبرى في التعليم والاقتصاد على الأطراف كان مدهشاً برغم من التحديات التي تواجه تنفيذ هذه المشروعات. ولعل الخطوة التالية الأهم هو منح فرص أكبر لأبناء الطبقات الدنيا في الدخل في الالتحاق بالجامعات وفي فرص الابتعاث الخارجي..، ولابد أن يصاحب هذه التطورات مشروعات لتنمية الوعي وإبراز الجانب الحضاري والسلمي عند المطالبة بحقوق إنسانية، والتجربة بدأت بالفعل في قرار السماح لجمعيات حقوق الإنسان، التي من المنتظر أن تتفاعل بصورة أكثر مع قضايا المجتمع، وأن يتم تحريرها من الرسمية قليلاً..
كان في قرار رفع الرواتب بصورة تراكمية محاولة لرفع الدخل من دون ارتفاع للأسعار مرة أخرى، وكعلاج تدريجي لمشكلة التضخم. لكن وحسب وجهة نظري الشخصية، لم أجد فيه حلاً جذرياً لمعالجة الفقر من خلال رفع الحد الأدنى للأجور بين موظفي الحكومة، فمقدار الزيادة عند الدرجات الدنيا في سلم الرواتب كان ضئيلاً جداً... كان من الأجدى أن لا تقل الزيادة في راتب الموظف عن خمسمائة ريال سعودي شهرياً، وبهذا يتم رفع الحد الأدنى لأجور موظفي الحكومة ذوي الأجور المتدنية... وتكون الزيادة ذات جدوى وتأثير في حياة ذوي الدخول المتدنية.. وتحقق الهدف الأهم وهو حماية المسيرة التنموية من خلال رفع سقف المستوى المعيشي عند أبناء الطبقات الدنيا في الدخل المادي، وبالتالي منعهم من السقوط في عالم الجريمة تحت حد الفقر والتأثير على مسيرة التنمية في الوطن..