لئن كان الإبداع (خياراً) ل(تميز) المجتمعات والدول في الماضي فهو (الوسيلة) للبقاء في عالم الأحياء الأقوياء في المستقبل... فالمبدعون والموهوبون يجسدون الطاقة الخلاقة التي تُخرج المجتمع عن الأنساق النمطية في التفكير والإنتاج؛ ..
....وتدفع به في فضاءات علمية جديدة، وتقتحم به أسوار التقليد في التفكير وتهدم به قلاع المحاكاة في التطبيق؛ فيقودون المجتمع إلى الاكتشافات والاختراعات والابتكارات التي تسهم في دفع متاريس التمدن واقتلاع جذور التبعية الفكرية للآخر... هذه حقيقة يجب عدم معاندتها أو حتى مجاملتها!
ولكم استبد بي الفرح وأنا أقرأ الخبر المنشور في جريدة الجزيرة (يوم الاثنين 26 محرم 1429هـ) حول تعديل أو تطوير نظام مؤسسة موهبة بدءاً بتغيير اسمها ليصبح: (مؤسسة الملك عبدالعزيز ورجاله للموهبة والإبداع)، وهذا الاسم الجديد له دلالات متعددة تنبئ عن رغبة المسؤولين عن تلك المؤسسة العملاقة برسالتها وأهدافها بتوسيع نطاق أنشطتها وخدماتها بشكل يؤمّن للمؤسسة دوراً إصلاحياً محورياً عبر الإسهام في صناعة الإبداع وتشجيع المواهب، لا سيما أنه قد تزامن ذلك التطوير مع الإعلان عن إستراتيجية طموحة للمؤسسة تزمع تنفيذها وهي إستراتيجية 1444هـ (2022م).
وبهذا الخصوص ذكر الأمين العام للمؤسسة - وهو أحد أبرز المبدعين السعوديين - الأخ الدكتور خالد بن عبدالله السبتي كلاماً مهما، حيث يقول: (التعديلات الجديدة قد شملت إعادة هيكلة المؤسسة، وتعديل بعض الصلاحيات لإعطائها مزيداً من المرونة والفاعلية في أداء رسالتها ودورها الهادف إلى بناء بيئة الإبداع والموهبة وتطويرها ودعمها بما يخدم الازدهار والتنمية المستدامة... من خلال العديد من الآليات والوسائل منها رعاية الموهوبين والمبدعين من الذكور والإناث..).
ويمكن لنا بتحليل ما ذكره الدكتور السبتي أن نخلص إلى العديد من النتائج أو الاستنتاجات المهمة، ولعل من أهمها ما يأتي:
1- أن مؤسسة موهبة بصدد تجاوز الأطر الضيقة في مجال رعاية الموهوبين إلى الفضاء الأرحب؛ حيث معركة بناء وتنمية البيئة المواتية والمشجعة على الإبداع والموهبة داخل المجتمع السعودي.
2- ستحظى المؤسسة بمرونة تنظيمية وإدارية أكبر وصلاحيات أوسع تمكنها من تحقيق رسالتها وأهدافها الجديدة التي بدت أكثر صعوبة من ذي قبل. وهنا لا بد من التأكيد على أهمية توفير الموارد المالية الكافية للمؤسسة عبر الميزانية المخصصة والأوقاف والمنح والهبات والتسهيلات، خاصة أن المؤسسة قد نجحت في برامجها السابقة وحققت نتائج ممتازة مقارنة بعمرها وخبراتها ومواردها المالية المحدودة، فهي من أفضل المؤسسات المتخصصة في عالمنا العربي، وهو أمر ثبت لدي بالبحث العلمي.
3- ضرورة تمكين المؤسسة من الانعتاق من جمود الأنظمة والإجراءات الحكومية وخصوصاً في مجالات الصرف المالي بما في ذلك (نظام الرواتب والأجور والمكافآت)، فمؤسسة كموهبة لا يمكن أن تقوم إلا على أكتاف العلماء والخبراء والباحثين المتميزين والكفاءات الإدارية الراقية وهؤلاء عملة نادرة ومكلفة، لدرجة جعلت علماء الموارد البشرية يتنبأون بأن مستقبل الأعمال المعولم سيشهد حرباً ضروساً على الموهوبين والمتميزين War for Talent، مما يزيد من حدة المنافسة على استقطاب أولئك ويرفع تكاليف الاحتفاظ بهم، ولذلك فإنه يمكن القول بأنه من المتعذر على مؤسسة موهبة أن توظف الموهوبين والمتميزين سواء بشكل كامل أو جزئي إلا بتوافر إطار مرن في مجال الرواتب والأجور والمكافآت والمزايا والتدريب.
4- وثمة شيء آخر يرتبط بما سبق ويضمن نجاح المرونة في مجال الصرف المالي، وهو طلب نتوجه به إلى مؤسسة موهبة، حيث يتوجب عليها الانتقال من فلسفة الفعالية Efficiency إلى فلسفة الكفاءة ُEffectiveness، فالمهم هو تحقيق الأهداف وليس التقتير في الصرف بحجة المحافظة على الثروة حتى لو أدى ذلك (التقتير) إلى (التقصير) في تحقيق الرسالة التي وجدت من أجلها هذه المنظمة أو تلك، لا سيما في حالة توافر الإمكانات المالية كما هو الوضع المعاش، ومن أبرز الأمثلة على المنظمات المحلية التي لم تنجح على الإطلاق في تجاوز مضايق فلسفة الفعالية (صندوق تنمية الموارد البشرية)، حيث بدأ الصندوق - بحسب علمي - بحدود ملياري ريال ثم أخذ يقدم برامج هزيلة ومتقطعة وذات نفس قصير وهو يحشد الأموال ويراكمها إلى أن تجاوزت أرصدته العشرين ملياراً في غضون ما يقارب الست السنوات، أي أنه تحول إلى ما يشبه الخزانة لجمع الأموال لا منظمة تأهيلية لفئة اجتماعية سندفع الكثير إذا تأخرنا في عملية إعدادها وتأهيلها وأعني بذلك فئة الشباب، ذكرواً وإناثاً!!
5- المدخل التنموي سوف يكون ركيزة أساسية في عمل المؤسسة وخططها وبرامجها من خلال الإسهام في تحقيق التنمية المستدامة وفق شفراتها ومعادلاتها الحرجة، مما يعني أن المؤسسة ستعطي اهتماماً أكبر بمجالات الإبداع التي ستحقق منافع اقتصادية وربما تقود إلى فتوحات علمية في مختلف الميادين، ومؤدى هذا أن الباب ما يزال مفتوحاً للمؤسسات القائمة ومؤسسات جديدة ترعى الإبداع وتنمي الموهبة في المجالات المختلفة كالفكر والأدب ونحو ذلك من الميادين المهمة، وكأن المؤسسة تقول لنا: أنا لا أطيق رعاية الإبداع في كل شعابه... فعلي نصيبي وعليكم نصيبكم، وهي محقة في هذا. فمن يعلق أجراس الإبداع في تلك الميادين!
6- التركيز المتوازن على تنمية الإبداع وتغذية الموهية لدى الذكور والإناث، لا سيما أن المرحلة الماضية لم تشهد اهتماماً يذكر في مجال برامج رعاية الإبداع والمواهب لدى بناتنا. وهنا يجب أن نؤكد على وجوب تأسيس إدارة نسائية متكاملة في المؤسسة تؤمن بالإبداع وتعمل من أجله على أن تُمنح من الفضاءات والصلاحيات والدعم ما يكفي، وليكن لها فروع في كافة المناطق، وقد يكون جيداً أن نفيد من الجامعات في احتضان الفروع بطريقة تنظيمية محكمة يتفق عليها، حيث يحقق ذلك الكثير من المنافع العلمية والتنظيمية والتنفيذية. وقبل نحو شهرين تحدثت بعض الزميلات في جامعة القصيم معي حول فكرة إقامة ملتقى خاص للموهبة في مركز الطالبات في الجامعة، وأعددنا تصوراً مبدئياً لذلك الملتقى، وذكرت لهن أنه قد آن الأوان لتدشين علاقة إستراتيجية مع مؤسسة موهبة.
7- حرص المؤسسة على التنويع في الأنشطة والخدمات والبرامج التي سوف تقدمها المؤسسة للشرائح المستهدفة، بحيث تشمل برامج تعليمية وتدريبية وتربوية ومؤتمرات وندوات ومسابقات وجوائز ونحو ذلك، ونرجو ألا تغفل المشاركات الإعلامية.
وقد يكون ملائما أن نتذكر أن ذلك التطوير الجوهري لنظام المؤسسة قد تم بموافقة سامية من لدن رئيس المؤسسة عبدالله بن عبدالعزيز - رعاه الله -، مما يؤكد على أن المؤسسة مدعومة من الرجل الأول، وفي هذا من التشريف والتكليف والدعم والتسهيل ما يجعل المؤسسة لا تملك خياراً غير الإنجاز المبهر... فرئيسها يقول لنا: (إن مهمتنا جميعاً في عصر الإبداع صقل الموهبة وتجسيدها على الواقع لخدمة الدين والوطن..) (المصدر: إستراتيجية 1444هـ، الموقع الإلكتروني للمؤسسة).
وسيكون لنا في المقال القادم حديث عن أهمية الثقافة وخطورتها في مسيرة مؤسسة موهبة في المرحلة المقبلة.
beraidi2@yahoo.com