هموم التربية والتعليم كثيرة ومترابطة ومعقدة... ويبدو الخلاص منها يستنزف الوقت والأفكار والأحبار، وفي النهاية ما يجدي من هذا النزف نزر يسير لا يفي بالمبذول من جهود ووقت... ما لم ينبع التصويب والتطهير من المربين أنفسهم وتحديداً ممن هم على ثغور المسؤولية ممن يملكون زمام القرارات...
كتبت كثيراً في هذا وما وجدت أمراً أنجع في البلوغ إلا قاعة الدرس وبيئة العمل، حيث مَن يدرسون على يديك يباشرون إصلاحك ويبلغهم فعلك... حتى إن كنت واحداً فافعل على الأقل إن لم تزح ركاماً أو تبني جداراً فلا أقل من أن تبصم موقعاً لخطوتك في الإصلاح...
من ضمن هذه الهموم ما يبعث السؤال عما هو دور المربين في تقدير إنسانية العلاقة بينهم وبين طلابهم سواء من يدرسونهم مباشرة... أو يديرون فيهم المؤسسات التي يتعلمون فيها...؟... تلك العلاقة القائمة أساساً على أن المرء بأصغريه: قلبه ولسانه... فيحفظون لقلبه سلامة المشاعر حين يتعاملون معه في حدود بشريته، ويقدرون لهذا الطالب كل ما يحيط به إنساناً معرضاً للخطأ وللمرض وللحاجة... يواجه ما يمكن أن يواجهه معلمه ومديره وعميد كليته ورئيس قسمه من ظروف المرض والخوف والمناخ والمشكلات والمصائب والابتلاء... فيأخذون بكل ذلك مأخذ التقدير... في حكمة ووعي وأريحية... دون أن يسلطوا قوتهم وقدرتهم ونفوذهم عليه وهو طالب لا يملك قراراًَ وليس بيده سلطة فيقع في ظلم دون أن تقوى نفسه الكبيرة على آلام عدم الحيلة...
والنماذج المتبنية لمنهج القوة والتسلط وإقامة الأسوار العليا بين الطلبة والمديرين والمعلمين والعمداء ورؤساء الأقسام هي الغالبة المنتشرة المتفشية مع الأسف في أروقة مؤسسات التعليم...
غير أن هناك نماذج وإن شحت إلا أنها الأمثل الأقدر على ولوج منافذ وإن ضاقت أمامها نظاماًً إلا أنها تتسع بها إنسانية... هذه النماذج تدرك أن الذين وضعوا الأنظمة وأقروا اللوائح إنما هم بشر لا ملائكة، وأن هذه القرارات والأنظمة واللوائح لا بد أن يكون لها منافذ استثناء عادلة ومنضبطة متى تعاملت مع بشرية الطلاب ومع حاجة المواقف التي تمر بهم... فإنها يمكن أن تتطوع بلا تراجع... فتأخذ بالأفضل من السبل والأنجح من القرارات بهدف إخراج الطلاب من مآزق المواقف التي لا حول لهم فيها أو قوة...
في أجمل صور هذه النماذج ما قرأته في عدد أمس الخميس لأنموذج رائع لمربية قديرة ومسؤولة واعية وصاحبة بُعد إنساني يجعل من بيئة التعليم تربة صالحة لبناء نفوس خضراء... الدكتورة رقية الحبيب عميدة كلية التربية في الرس... يقول الخبر: (أروع الأمثلة قدمتها عميدة كلية التربية للبنات بمحافظة الرس الدكتورة (رقية الحبيب)، وذلك عندما قامت وطيلة أيام الامتحانات بتقديم وجبة إفطار لأكثر من ثلاثة آلاف طالبة من حسابها الخاص ولاقت هذه البادرة صدى من جميع الطالبات، التي كان لها دافع إيجابي في تسهيل مهمتهن في أداء الامتحانات)...
د. رقية هل تأذنين لي أن أحييك...؟
ذلك لأنك الإجابة الوحيدة التي ردت إلي صوتي وقد بح منذ زمن...؟
وعادت لي أوتاره تنبض بتقديرك وأنت هذا الأنموذج للمربية الحكيمة في اتخاذ الموقف المناسب المعزز لحاجة الإنسان بين يديك... إذ لا أشك في أن لك غير هذا الموقف ما يعزز مبادئ التغيير الإيجابي لمفاهيم العلاقة بين الطالب والمسؤول في ضوء قيام الأسوار وحواجز الأدوار... تلك التي تجاسرتِ أنت فنقضتِها في أروع عطاء...
وفقك الله دوماً.