قبل خمسة عشر عاماً، كان لي برنامج بإذاعة القرآن الكريم، عنوانه فقهاء الإسلام، وقد أذيع منه ما يقارب (300) حلقة، فكان سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز يستمع بعض حلقاته، فقال يوماً لي: ماذا تنوي في هذا الحديث؟ قلت: بدأته من عهد الرسول -صلى الله عليه وسلم-، والصحابة، وأنوي الاستمرار إلى العصر الحاضر، فقال -رحمه الله-: لا تكتب عن أحد على قيد الحياة فإنه لا يؤمن عليه من الفتنة، وإنما بعد الممات فلا بأس..... |
.....ولذا فقد أخذت بهذا التوجيه، وعندما أكتب اليوم عن هذا الأديب العالم الشاعر، فإنما أتحدث عن شخص تتلمذت على يديه في مبدأ دخولي الابتدائية وتركت توجيهاته ونصحه، بصمات في مخيلتي، أدعو له من أجلها كلما ذكرته، كما يروى عن بعض العلماء قوله: من علمني حرفاً كنت له عبداً. |
وأتحدث عن شخص، بانت آثاره ونصحه، في كل من تتلمذ عليه أو تعرّف عليه، فقد برزت نجابته بأعماله المبكرة وأفكاره النيّرة، فهو مع أدبه من رجال العلم، وله باع في الشعر، الذي نبغ فيه مبكراً كما أفل نجمه مبكراً. |
وهذا ما يلمسه المتابع لذوي المواهب والذكاء، حيث يسطع النجم عاجلاً، ويخفت كذلك، فقد عاجلته المنيّة، وهو في مرحلة التفتح والعطاء. قلت عنه في كتابي (شقراء مدينة وتاريخ): الشاعر المرهف، والأديب الملهم: عبدالعزيز بن صالح بن عبدالله بن مقرن. |
ولد بشقراء حاضرة إقليم الوشم عام 1348هـ، كان صديقاً وزميلاً للشاعر عبدالله بن عبدالرحمن بن إدريس، طوال حياتهما، التحقا بالمدرسة الابتدائية أول يوم فتحت في 1-1-1360هـ، وتخرجا منها، ثم التحقا بدار التوحيد في الطائف عندما فتحت عام 1364هـ وتعينا سوياً مدرسين في مدرسة شقراء عام 1367هـ، وفي عام 1372هـ بعد فتح المعهد العلميّ بالرياض، لطموحهما ذهبا معاً، فالتحقا به، ولمكانتهما العلميّة، فقد أُعطيتْ لكل منهما فرصة التقدم، فاختصرا مدة الدراسة لتفوقهما وذكائهما في مرحلتي المعهد ثم الكلية.. كما كانا شاعرين مجيدين، بينهما مسامرات ومساجلات، وسعة اطلاع في كل فن قراءة ونقاشاً. |
ومع ذلك كانا حريصين على توسيع مدارك طلابهما، عندما كانا في مدرسة شقراء، بالتشجيع على القراءة، وتوسيع المدارك ووضع الحوافز بين الطلاب، والمناقشة فيما يقرأون وماذا استفادوا، مع حُسْنِ التوّجيه ورعاية المواهب. |
وكان عبدالعزيز، ممن تحفّز للنّادي الأدبي أسبوعياً في تلك المدرسة، فبرزت المواهب، فكانت معلومات تلاميذهما فوق مستوى المرحلة الابتدائية بكثير.. رحمهما الله. |
ومن هذا المنهج فقد حرص الشيخ عبدالعزيز المقرن، طوال فترة عمله خمس سنوات في مدرسة شقراء، مهتم وبإخلاص بتنوير أذهان الطلاّب ثقافياً وعلمياً، وتعويداً لهم على الخطابة والارتجال، وإيمانه على حسن الاختيار في القراءة، ونقاشهم فيما قرأوا. |
وبعد التحاقه بمعهد الرياض ثم الكلية، توسم فيه سماحة مفتي عام الديار السعودية المشرف على المعاهد والكليات، النجابة مع حدة الذكاء، فعينه وهو مازال طالباً في الكلية مديراً لمعهد المجمعة العلمي، من العام الدراسي 18-1-1375هـ لما عرفه عنه من سمت ووقار، وعلم وأدب جمّ، وصدقت فراسته فيه، عندما نجح في عمله إدارة وعلماً فكان محبوباً من الجميع. |
ولمكانته لدى سماحة مفتي الديار السعودية، فقد نقله من معهد المجمعة، الذي مكث فيه أ كثر من عامين، ليعمل بإخلاص ونصح، مع استمراره في مواصلة الدراسة بالكليّة لشغفه بالعلم، وتفوّقه فيه. ليعمل بجانب سماحته. |
وهنا أحبّ سماحة مفتي عام الديار السعودية أن يستفيد منه قبل تخرجه،، لأن سماحته، معروف بالفراسة الجيدة في الرّجال، والتعرف على مستوياتهم، بمجرد الحديث معهم، حيث رغب سماحته الاستفادة منه قبل تخرّجه، ليكون سكرتيراً خاصاً لسماحته، رغبة في الاستفادة من سعة اطلاعه، حيث عيّنه في 1-4-1377هـ، وبعد عامين عيّنه مديراً عاماً للإدارة الجديدة، بدار الإفتاء تحت رئاسة وتوجيه سماحته، واستمّر في ذلك العمل، إلى أن أجبرته ظروفه على ترك العمل لما طرأ على حالته الصحية. |
- ففي المجال العلمي: بانت مكانته في عمله مع الشيخ محمد بن إبراهيم -رحمه الله- وفي مشاركاته العلمية في الندوات والمحاضرات في المساجد وغيرها. |
- أما في المجال الأدبي الثقافي: فقد منحه الله موهبة شعرية، وسهولة في النظم، وجزالة في الشعر بأغراضه، وبمنهج متميّز، يظهر هذا في مثل هذا الموقف.. |
فقد قرأ مرثيّة للشاعر محمد بن بليهد، جزلة المعاني، عميقة الأثر، تقع في (20) بيتاً، في رثاء الوجيه إبراهيم بن عبدالرحمن العبدالكريم المتوفى في 28 صفر عام 1369هـ فأثارت شجون الشاعر عبدالعزيز فعارضها بقصيدة تبلغ (20) بيتاً وزناً وقافية، جاء فيها: |
لقد أثار شجوني بعد ما هجَعتْ |
شعر أتى من كريم الجاه والحسب |
محمد الخالدي الفخر منسبه |
أكرم وأنعم بذاك الشخص والنسب |
|
كنّا أدرنا رثاءً حال فرقته |
لكنه رحيْل بين القلب والطلب |
في حادث عمنا من بعد فرحتنا |
فأورث القلب ألواناً من الكأب |
واستعجمت السن الراثين من حزنٍ |
على الفقيد وصار القلب كاللهب |
وقد سبقت إلى تأبينه عجلاً |
وأنت للفضل سبّاقاً وذا أدب |
أما نثره، فقد كانتا صحيفة الجزيرة والرياض ميداناً واسعاً لما يخطّه قلمه السيّال، وما تبثّه أفكاره الّتي تعالج بها القضايا الاجتماعيّة أسبوعياً بفكره النيّر، وتطلّعاته لما ينفع البلاد والعباد. |
وبأسلوب العالم، كان يتحدّث في المساجد والمنتديات، ويطرح أفكاراً وحلولاً، لما يرى فيه نفعاً للبلاد في نهضتها، مخاطباً القلوب، في نبراته التي تتغلغل في الأعماق، فتؤثر في سامعيه، لأنها صادرة من القلب، وقد كان يتحدث فيها باستمرار وتحليل وإسهاب في الثمانينات من القرن الماضي، فتجد صدى في المجتمع واستجابة لدى المسئولين، وحسب عناوين ما كتب لضيق الحيز، والكتاب كما يقال يقرأ من عنوانه.. فسنمر ببعضها على عجل. |
- فقد حيّا جريدة الرياض بمناسبة صدورها يوميّة. وفي الجزيرة تحدّث عن أهمية تأسيس مجمع اللغة العربية لتوفر اللقاءات الوطنية والعلمية، وفي يوميات الرياض عن مصلحة الآثار وضرورة متابعة آثار الوطن، قال: بأنه سائر إلى الاستقلال رضي الاستعمار أم أبى، وفي 10-6- 1385هـ كان موضوعه: فكرة مهداة إلى مديرية التعليم بمنطقة الرياض، عن أهمية المحاضرات والمواسم والندوات الثقافية. |
وفي سبيل البناء كان حديثه يوم 7-3-1385هـ عن المجلس الأعلى لرعاية العلوم والفنون والآداب، وما يطلب منه تحقيقه. |
ويأتي في اليوميات بآراء ومقترحات نحو تطوير البادية، والأخذ بيدها إلى حياة أفضل، وفي الجزيرة يعالج في شهر شعبان عام 1385هـ، موضوعين في حديثه: جمعيات التّعاون والصدّاقة، وجولة حول الأدب الشعبي في وطننا. |
أما في يوميات الرياض يوم 20-4-1385هـ فقد خاض في موضوع مهم عن مجتمعنا وحاجته إلى الصّراحة والتّعاون ونزع الشكوك. |
وفي يوميات 4-4-1385هـ كان يطالب بمدارس نسائية لمكافحة الأميّة، ومع النهضة التي تمرّ بالبلاد، فقد رأى الحاجة لوزارة خاصّة الصناعة، لتوفر المجالات الواسعة للعديد من الصناعات، ولم ينسَ قضية فلسطين ومناجاتها، تحت عنوان: الرأي العام في الجزيرة 25-10- 1385هـ. أما الأدب الذي هو هاجسه، فقد كتب تحت عنوان: لدينا أدب وأدباء ولكن ينقصنا القارئ الواعي.. هذه أربعة عشر عنواناً، هي نموذج لقدراته الفكرية وطرحها بإسهاب ودراسة أخذ بأكثرها، تضع بصمات على مقدرته ومن حقه تجميع جهده للأجيال بعده ودراستها.. غفر الله له، وقيض لتراثه من ينفض عنه الغبار. |
|
جاء في كتاب الكامل، في اللغة والأدب للمبرد قول: قال بعض الحكماء: من أدّب ولده صغيراً سُرَّ به كبيراً، وكان يقال: من أدب ولده، أرغم حاسده، وقال رجل لعبدالملك بن مروان: إني أريد أن أسُرَّ إليك شيئاً، فقال عبدالملك لأصحابه: إذا شئتم؟ فنهضوا فأراد الرجل أن يتحدّث، فقال له عبدالملك: قف. لا تمدحني فأنا أعلم بنفسي منك، ولا تكذبني، فإنه لا رأي لكذوب، ولا تغتب عندي أحداً، فقال الرّجل: يا أمير المؤمنين أفتأذن لي بالانصراف؟ فقال له: إن شئت.. فانصرف ولم يتكلم بشيء. |
وقال بعض الحكماء: ثلاث لا غربة معهن: مجانبة الرّيب، وحُسْن الأدب، وكفّ الأذى، وقال عمرو بن العاص لدُهْقان نهر تيرس: بم ينبلُ الرّجل عندكم؟ فقال: بترك الكذب، فإنه لا يشرفُ، إلا من يوثق بقوله، وبقيامه بأمر أهله، فإنه لا ينبلُ من يحتاج أهله لغيره، وبمجانبة الرّيب، فإنه لا يعزّ من لا يؤمن أن يصادف على سوءة. وبالقيام بحاجات الناس فإنه من رجي الفرج لديه، كثرت غشيته، وقال بزر جمهر: من كثر أدبه كثر شرفه، وإن كان من قبل وضيعاً، وبعُد صيته، وإن كان خاملاً، وساد وإن كان غريباً، وكثرت الحاجة إليه وإن كان مُقْتراً. |
وكان يقال: عليكم بالأدب، فإنه صاحب في السفر، ومؤنس في الوحدة، وجمال في المحفل، وسبب إلى طلب الحاجة، وقال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: من أفضل ما أعطيته العربُ، الأبيات يُقدّمها الرجل أمام حاجته فيستعطف بها الكريم، ويستنزل بها اللئيم. وقال بعض الملوك لبعض وزرائه، وأرد محنته: ما خير ما يرزقه العبد؟ قال: عقل يعيش به، قال: فإن عدمه؟. قال: فأدب يتحلى به، قال: فإن عدمه؟. قال: فمال يستره. قال: فإن عدمه؟ قال: فصاعقة تحرقه، فتريح منه البلاد والعباد. |
وقيل لرجل من ملوك العجم: متى يكون العلم شراً من عدمه؟ قال: إذ أكثر الأدب، ونقصت القريحة. وقال أزد شير: من لم يكن عقله أغلب خلال الخير عليه، كان حتفه في أغلب خلال الخير عليه، وقال محمد بن علي بن عبدالله بن العباس: وذكر رجلاً من أهله: إني لأكره أن يكون لعلمه فضلٌ على عقله، كما أكره أن يكون للسانه فضلٌ على علمه. (الكامل للمبّرد 1: 46) |
|