طلب مني زميلي مدير المدرسة أن نتجول في مدرسته العامرة فمررنا بالدور الخاص بالصفوف الأولية وعرجنا على الصف الأول (ب) وسلمنا على المعلم الذي خمطه المشيب وإذا به كالشعلة وفصله كحديقة الزهور وطلابه مستمتعون مرحون، فقال لنا اختاروا من شئتم من الطلاب بطريقة عشوائية واطلبوا منهم أن يكتبوا أي كلمة ترونها أو ينطقوا أي كلمة تختارونها ففعلنا ذاك واستمر الاختيار ووجدنا طلاباً؛ جميلة خطوطهم وسليمة قراءتهم وصحيحة تلاوتهم ثم تحولنا إلى الفصل الذي يجاوره وهو الصف الأول (أ) فطرقنا الباب واستأذنا فلم يجبنا أحد ففتح المدير الباب ووجدنا المعلم الفني يغط في نومه أما طلابه فالبعض منهم نائم والآخر لاهٍ. وشاهدنا فصلاً كئيبا وطلابا خائفين وجلين كزغب الحواصل لا علم ولا أدب، ثم اختار المدير عينة عشوائية من الطلاب وأملى عليهم بعض الكلمات فلم يكتبوها ولم يقرؤوها فاختار لهم من كتابهم الذين بين أيديهم فلم يستطيعوا الكتابة أو القراءة كما ينبغي..
ألا يحق لي أن أعجب من هذين المثالين؟ بل تعالوا أحدثكم لتعجبوا وتندهشوا فحينما وصلنا إلى غرفة الإدارة، قال لي المدير هل تصدق أن المعلم أبا محمد الذي يدرس الصف الأول (ب) أكمل هذه السنة ثلاثا وثلاثين عاماً في التدريس؟! وهل تصدق أن لم يغب طوال هذه المدة إلا يومين! ولا يتأخر عن حصته البتة ولم يتأخر في تسليم دفتر التحضير طوال مدة خدمته بل هل تصدق أنه لم يرسب عنده طالب قط! وطلابه الذين يدرسهم يستمرون متفوقين في قراءتهم وكتابتهم، وأن هذا التفوق ساعدهم في التفوق في جميع المواد التي يدرسونها قلت فما بال المعلم الذي يدرس الصف الأول (أ) قال المعلم سامي - هداه الله - له في الخدمة ثلاث سنوات ومن بداية السنة الدراسية إلى اليوم - وكنا في بداية الفصل الثاني - غاب ستة وعشرين يوما بدون عذر وعشرة أيام بعذر بل إن عدد ساعات تأخره قد بلغت ثمانين ساعة ولم أره قدم التحضير الكتابي يوما قط هذا فضلا عن الشكاوي التي تصلنا من أولياء الأمور تجاهه فمرة يضرب الطلاب ومرة يشتمهم إضافة إلى أنه مصدر إزعاج في المدرسة فمرة يؤلب المعلمين على الإدارة ومرة يثبطهم وأحيانا يتجادل معهم ويخاصمهم.
قلت فماذا قدمت لذاك وماذا فعلت بهذا قال دائما أقول للأول جزاك الله خيرا وبارك فيك وكل يوم أقول للثاني هداك الله. قلت فقط قال نعم هذا الذي أستطيعه بعد كل محاولاتي الملحة في تكريم ذاك ومحاولاتي البائسة في إصلاح أو إبعاد هذا.
وبعد أن طال عجبي تذكرت أن هناك ثلة لم يلتفت لهم أمثالك يا أبا محمد ومن أمثالك يا سامي ثلة أتمنى أن يكونوا قليلين.
كما أتمنى وأظن كل قارئ يتمنى أيضاً أن يكثر الله من أمثال أبي محمد وكثرتهم ستكون - بإذن الله - إذا صلح أمثال سامي أو أبدلوا بغيرهم فقائمة الانتظار مليئة والأمة الناجحة كما يقال هي التي تختار أفضل أفرادها ليكونوا معلمين.
ثم ألا يدعونا هذا وذاك لتطبيق الحكمة التي تقول إن تكريم المجد عقاب للفاشلين وعقاب الفاشل تكريم للمجدين.