روعني بالأمس القريب نبأ وفاة صديق عزيز هو الأستاذ محمد بن ناصر بن مفيريج، أحد رجال التربية والتعليم في بلادنا الذي قضى شطراً من حياته مديراً للتعليم في حوطة بني تميم.
ومما ضاعف أساي أن وفاة هذا الصديق جاءت إثر مرض عضال عانى منه كثيراً فكان الصابر المحتسب، كما كانت وفاته بعد فترة قصيرة من فقده لأخيه الأكبر الشيخ عبد الرحمن بن ناصر بن مفيريج الذي فجعنا به جميعاً. فكان الحزن والفقد أصعب لأهلهما والعارفين بهما، من كل صديق، لكن الجميع على يقين أنها إرادة الله الذي لا راد لقضائه وقدره. فقافلة الموت تسير كل يوم بل كل ساعة فيلتحق بها العديد ممن نعرف أو نجهل ولا أحد يشعر بركبها ما لم تكن تحمل غالياً أو قريباً أو صديقاً عندها تتغشانا سحابة الحزن، وتتملكنا هزة المصاب وتصافحنا الحقيقة التي طالما تناسيناها فنردد قوله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله}.
حقاً، إنها الحقيقة الأكيدة الراسخة وليس لنا أمامها إلا الرضا والقبول فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط.
كان الأستاذ محمد بن ناصر بن مفيريج بالأمس زهرة يانعة، تقابله فتجده يتحلى بالصفات الحميدة. عرفته زميلاً في الدراسة بالمعاهد والكليات العلمية بالرياض، ثم جمعنا العمل مرة أخرى في دوائر التربية والتعليم حيث عمل مدرساً ثم مديراً للتعليم بعد أن شغل وظائف كثيرة في التدريس والإدارة في عدد من مدارس الرياض.
وعندما نبئت بوفاته كنت أجتاز مرحلة فقد شقيقه الأكبر عبد الرحمن فتضاعفت لوعتي واجتاحني الحزن من جديد إذ تجمعني بهما أكثر من علاقة وتصل بيننا أقوى الصلات فهما زميلا الطفولة المبكرة وإن كان أحدهما يكبرني والآخر يصغرني. جمعنا حي دخنة فعشنا بين تلك الشوارع والأزقة والميادين الضيقة، نتردد بين الكتاتيب وأماكن اللهو واللعب البريء في الساحات والأزقة وربما تجاوزنا سور البلدة لنخرج إلى بساتين النخيل المحيطة بالرياض آنذاك إحاطة السور بالمعصم، فنقصد النخيل الخاصة ب(آل المفيريج) القريبة من الحي، التي يفصلها عن السور الجنوبي للرياض بضع خطوات فقط.
وكنا نذهب إلى الكتاتيب لنتعلم الهجاء، وندرس بعض سور القرآن الكريم، ونتلقى الدروس التقليدية التي كانت تقدمها أشهر كتاتيب الرياض التي تشرف عليها أسرتهما (آل المفيريج) وكتاب أخوالهما (آل المصيبيح) وهما الكتابان الأشهران والأقدمان آنذاك، وتقعان في الجهة الجنوبية الشرقية من حي دخنة الشهير في مدينة الرياض القديمة، على الجناحين الشمالي والجنوبي للمسجد المعروف ب(مسجد الشيخ عبد الله) أو (مسجد دخنة الكبير) فقد أنشئتا ضمن المسجد بعد دخول الإمام عبد العزيز بن محمد بن سعود الرياض عام 1187ه، وكان يتولى التدريس فيهما أول الأمر مشائخ من حفاظ القرآن الكريم المجودين من أهل الدرعية الذين نزحوا إلى الرياض بعد الكارثة كآل داود، وآل مفيريج، وآل خثران.
وقد درس آل داود في هاتين المدرستين بعد أن أسس الإمام تركي بن عبد الله الدولة السعودية الثانية عام 1240هـ فأعاد النشاط التعليمي والعلمي بهذا المسجد ثم تولى التدريس في تلك المدرسة (آل مفيريج) وظلت في أيديهم يتوارثونها أباً عن جد حتى تطور أمر التعليم وتغير من نمطه القديم إلى النمط الحديث.
والجدير بالذكر أن مدرسة آل مفيريج ورصيفتها مدرسة (آل المصيبيح) درس فيهما وتخرج منهما خلق كثير من أبناء الأسرة الحاكمة والأسر الشهيرة من سكان الرياض وغيرهم، حتى أن كثيراً من مشاهير طلبة العلم الشريف كانوا يتلقون الهجاء وحفظ القرآن الكريم وتجويده في هاتين المدرستين، كمرحلتين أوليتين للدراسة، ثم ينتقل الطلاب منها إلى حلق الدراسة العامرة في المسجد المجاور ليتلقوا العلوم والفنون السائدة حينها، كعلوم الحديث والفقه والفرائض وأصول الدين والعقائد وغيرها.
كان المرحوم عبد الرحمن بن ناصر، الأخ الأكبر للفقيد متفوقاً في كل شيء يدركه الصبية، إذ كان نشطاً وحيوياً يمتلك قدرات ومواهب عديدة، لكن على الرغم من ذلك لم يتمكن من مواصلة دراسته، فانصرف باكراً للبحث في طلب الرزق والعمل مع والده، وبعد أن توفي والده رحمهما الله أصبح يشعر بالمسؤولية تجاه إخوته الصغار، فقام بتوجيههم خير توجيه نحو الدراسة إذ كان بمنزلة الوالد الموجه لهم فالتحق عدد منهم بالمدارس النظامية وحصلوا على شهادات عليا في الشريعة واللغة، أما الأحفاد فبفضل تلك التوجيهات، ورغبة في تحصيل المزيد من العلم، واصل العديد منهم دراسته المدنية، وأعرف منهم اليوم مهندسين ومديرين لأعمال فنية وموظفين في الدولة من بينهم الأستاذ فهد بن محمد والأستاذ منصور إن اكتفيت بهذا، فالمجال لا يسمح بسرد كل الأسماء.
حقاً، إن فقد الأحبة مفزع، لكن لطف الباري تبارك وتعالى، ألهم عباده ميزة الصبر والتأمل، ليجد المرء نفسه منتظماً في سلسلة العدل الإلهي فيدرك أن الموت أمر محتوم على كافة العباد {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ}
ولا شك أن كل من عاشر الفقيدين قد أدرك ما كانا يتمتعان به من أخلاق فاضلة وشهامة وعفة ومروءة وترفع عن الصغائر وغير هذا من الخصال الحميدة النادرة. بالإضافة إلى جدهما ومثابرتهما وبذلهما كل غالٍ ونفيس خدمة لدينهما ووطنهما.. تشهد على هذا مشاركتهما الجادة، التي تركت بصمتها واضحة جلية في مجال التربية والتعليم؛ ولا غرو في ذلك فهما سليلا أسرة هي من أقدم الأسر في ترسيخ التربية والتعليم في بلدة الرياض. ف(آل مفيريج) وأخوالهما (آل المصيبيح) ذو عراقة في إنشاء الكتاتيب ونشر التعليم منذ عقود بعيدة حيث كان كل من جدهما عبدالرحمن بن مفيريج وعبدالله بن مفيريج وناصر بن عبدالله بن مفيريج وصالح بن مفيريج وجدهما لأمهما محمد بن مرحوم الملقب ب(المصيبيح) وخالهما صالح بن محمد المصيبيح، كانوا يمارسون التعليم حتى أنشئ التعليم النظامي، بل إن بعضهم شارك في النقلة التعليمية، كالمرحوم ناصر بن عبدالله بن مفيريج الذي حول كتّابه من كتاب تقليدي إلى مدرسة نظامية تولى العمل فيها أشهر معلم عرفه تاريخ التعليم في الرياض، هو الشيخ محمد بن عبدالله السناري الذي أصبحت مدرسته التعليمية معلماً من معالم الرياض في الخمسينيات وحتى أوائل الستينيات من القرن الهجري المنصرم، حيث شاركه الشيخ ناصر بن عبدالله وشجعه ودفع به إلى ذلك العمل التعليمي المثمر.
كما أن فقيدنا بالأمس محمد بن ناصر وأخوه المرحوم عبدالرحمن وبقية من آل مفيريج ممن لا أعرفهم قد انحرط معظمهم في سلك التعليم وتولوا التدريس في بعض المواد الدينية واللغوية في المدارس والمعاهد العلمية.
فإلى كل مصاب بمصاب الفقيد ومصاب أخيه عبدالرحمن الذي سبقه، أقول: إن مصابكم مصابنا فلندعو نحن وأنتم لهما بالرحمة والمغفرة. ضاعف الله لنا ولهما الأجر والمثوبة، صحيح.. إن العين لتدمع وإن القلب ليحزن، لكننا لا نقول إلا ما يرضي الله ورسوله.
{إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}.