* البنغالة أو (البنقالة)، كما يطلق عليهم بيننا - والأولى أصح - ينسبون في الأصل، إلى (خليج البنغال)، الذي أخذت دولة (بنغلاديش) المنشقة عن الباكستان عام 1971م، اسمها منه، ثم أصبح اسماً على رعاياها، مع أن هذا الخليج الكبير يتوزع بين عدة دول، أكبرها الهند، ثم بنغلاديش، وبوتان، وتايلند، ونيبال، وسريلانكا. ويصح أن يقال لكل أهله بنغالة.
* والكلام على (البنغالة)، في الصحافة السعودية، وفي غيرها من الوسائل، أخذ مساحة طاغية في الأشهر الأخيرة، والسبب يعود بطبيعة الحال، إلى حضور (بنغالي) مقلق في مسرح الجريمة بيننا؛ الأمر الذي رفع من درجات القلق والخوف، وصعّد من المطالبة بوضع حد للبنغاليين وجرائمهم، بل ذهب البعض إلى المطالبة بترحيل هذه العمالة، وإيقاف الاستقدام من بلدها.
* أنا لا أكتب هنا دفاعاً عن العمالة البنغالية، ولا مهوناً مما شاع وذاع، من جرائم كان (ممَّن) وراءها، أو من أدواتها، رعايا بنغلاديشيون، وليس كل رعايا بنغلاديش بطبيعة الحال على هذا النحو؛ فالتعميم ليس عدلاً، ولا يصح البتة. لست هنا محامياً عن مليون ونصف بنغالي في بلادي، سوف يرتفع عددهم - كما بشرنا قنصل بلادهم قبل أسابيع - إلى ثلاثة ملايين، بل إني مثل كثير من الناس، أشعر بقلق كبير، نتيجة ما أرى وأسمع وأقرأ، ففي كل مدينة وقرية، هناك عمالة بنغالية كبيرة، ليست كلها تعمل حسب ما هو مطلوب منها في عقود العمل المفترضة، كما أنها ليست كلها جاءت من أجل التخطيط لارتكاب الجرائم، وبالتالي خلخلة الأمن الاجتماعي.
* صحيح.. هناك جرائم قتل وقعت، وهناك سرقات لا عد لها ولا حصر، وهناك متاجرة في ما هو ممنوع، من صنع وترويج لمسكرات ومخدرات، ودعارة وفسوق، وإفساد أخلاق وغير ذلك. ممارسات هي ضد الأخلاق العامة، وضد كافة النظم والتشريعات، بل هي ضد الإسلام، الدين الذي تعمل به المملكة، الدولة المضيفة للبنغالة، والذي هو الدين الرسمي لدولة بنغلاديش.
* أعتقد أنه لا ينبغي لنا في قضية كهذه، الاكتفاء بالنظر إلى نصف الكوب الفارغ. هناك أكثر من حلقة مفقودة في صورة المشهد الذي يعلن عن نفسه في وسائلنا الإعلامية: (البنغالي والجريمة). العمالة البنغالية اليوم، هي أكبر عدداً من غيرها في المملكة، على ما يبدو، وهذا يحتاج إلى إعادة نظر. هذه ناحية. ثم إنها تأتي من بلد يعاني من الفقر الشديد؛ فعدد سكانه مئة وخمسون مليون نسمة، وهم يشكلون أعلى دول العالم كثافة سكانية (أكثر من 1055 نسمة في الكيلو متر المربع)..! ودخل الفرد لا يتعدى بضعة دولارات في العام، وهذه العمالة المستقدمة من بنغلاديش، هي الأقل كلفة بين كافة الجنسيات العاملة في المملكة، وهي التي جاءت لإدارة أعمال دنيا في معظمها، لا يرغب فيها غيرها، تبدأ من تنظيف المدن، فتتدرج بعد ذلك إلى إدارة الورش، والمواد الغذائية، والأسواق التجارية كافة.
* من هذه الحلقات المفقودة والخطيرة، حلقة الكفلاء السعوديين غير الأمناء، الذين يستقدمون عمالة بالعشرات والمئات والآلاف ب(تراب الفلوس)، ثم يرمون بها في أحيائنا وأسواقنا، بدون أي مسئولية أو التزام ببنود العقود، فلا رواتب شهرية، ولا سكن أو إعاشة، ولا إشراف أو إدارة أو تشغيل حقيقي حسب نصوص العقود المعروفة، وإنما همّ هذا الكفيل الجشع غير الأمين، هو تحصيل إتاوات شهرية مقابل هذا (الفلتان)، تبدأ من (300 ريال)، وقد تزيد على ذلك، يدفعها كل عامل نهاية كل شهر، ليتمتع بحرية العمل الذي يدرّ عليه أعلى دخل، وليظل (داير على حل شعره)، يفعل ما يريد وما هو بحاجة إليه، غير ملزم بحاجة البلد الذي استقدمه..؟!
* حلقة ثانية يا سادة ينبغي الإمساك بها قبل أن تفلت من أيدينا، وهي: مَن وراء (بعض) جرائم البنغالة، وخاصة في صنع وترويج المسكرات والمخدرات والسطو والسرقة، التي لم توفر حتى كيابل الكهرباء تحت الأرض، وبطاريات السيارات..؟
* إذا لم يكن هناك مجرم خطير، ولص كبير، ومواطن لا ذمة له ولا وطنية، يدل هذه الأدوات التي تسرق، على مكامن المسروقات، ويسهل لها طرق السطو والعربدة، ويستقبل مسروقاتها، ويشتري ما يعرض عليه منها، ومن مخدرات ومسكرات، ويُسكن اللصوص والسُّرّاق، وينقلهم في سيارات، ويتستر عليهم في المدن والقرى، ويُقبل على بيوت الدعارة، ويغض الطرف عن منكرات تجري أمام أنظاره ونحو ذلك.. لو لم يكن هذا (الخطير غير الوطني) موجوداً في مشهد الجريمة، فهل كان للبنغالة هذه السطوة على فعل الذي يفعلون، حتى أصبحت هذه العمالة الآسيوية، هي المتهم الأول في الذهنية الشعبية.
* حلقة ثالثة في هذه القضية. أتساءل هنا: هل البنغالة وحدهم من يقترف هذه الجرائم من بين الفئات الوافدة الأخرى..؟ طبعاً لا، وإن تكررت وتعدت وتنوعت من العمالة البنغالية، ربما لكثرة عدد هذه العمالة. ثم هل لدينا إحصاءات دقيقة، تربط بين عدد الجرائم ونوعيتها، وبين عدد كل جالية على حدة..؟
* حلقة رابعة، وهذه هي الأهم، ما نصيب السعوديين أهل البلاد من مباشرة الجريمة نفسها، خاصة ومثل هذا الأمر لا يخفى علينا، فالصحف اليومية، تعرض بشكل يومي، الكثير من هذا الذي طال حتى الآباء والأمهات، والمحارم من البنات، والفاعل هو في الغالب، من السعوديين أنفسهم..؟!
* حلقة خامسة وأخيرة.. كيف نفسر تسيد العمالة البنغالية على أسواق الخضار والفواكه..؟ وأسواق الأسماك..؟ وأسواق المواد الغذائية، وأسواق مواد البناء والكهرباء، ومهن حرفية كثيرة، مثل الحدادة والنظافة والإلكترونيات وغيرها..؟ حتى تحول الكفيل السعودي إلى أجير يومي، يكتفي بالجلوس عند مدخل محل البنغالي أو متجره، ويقبض خمسين ريالاً في اليوم، ليذر الرماد في عيون الرقابة فقط..!! أين السعوديون من هذه الميادين كافة، خاصة عندما ترتفع عقيرتهم بالشكوى، من استحواذ البنغاليين على صنائع ومهن وحرف، ليس لهم فيها حضور يذكر..؟
* أتساءل في الختام: كيف نحل هذا المشكل..؟ بل كيف نفكر في حل هذا المشكل..؟ هل الحل الوحيد هو ما يطرحه بعض المتحمسين في ترحيل العمالة البنغالية، ثم عدم الاستقدام من بنغلاديش..؟
* إذا أعيتنا الحيلة، في ضبط السلوك الاجتماعي، ومنه سلوك العمالة البنغالية الوافدة، فلم يبق أمامنا من حل، سوى الذي يديره بعض الكتاب، وبعض المواقع المخصصة في هذه الحالة (البنغوسعودية)، فلنا أن نسال أنفسنا بكل صدق وشفافية: هل ترحل الجريمة مع رحيل آخر بنغالي يعمل في هذه البلاد..؟
* إذا كان الجواب بنعم؛ فأهلاً وسهلاً بهذا الحل العبقري، ولا أهلاً ولا سهلاً بعده، بمَن يخلق لنا المشاكل، ويأتي لبلادنا من أجل احتراف الجريمة، ولا شيء غير الجريمة.
* بقي أن أختتم هذا الموضوع بالتأكيد على أن التعميم بالصاق الجريمة بكل من ينتمي إلى الهوية البنغالية غير صحيح، واستثناء العمالة من الجنسيات الأخرى من الجريمة غير صحيح أيضاً، بل إن القول بأن بعض السعوديين لا يرتكبون جرائم مماثلة لا يستقيم مع المنطق الصحيح، فحبذا لو كانت هناك احصائيات وأرقام ومعلومات دقيقة تدلنا على الحقيقة.
assahm@maktoob.com