دبي - أحمد يوسف
تسود الأراضي الفلسطينية المحتلة حالة من الفوضى والانقسام في المواقف السياسية والفلتان الأمني، التي تشكل خطراً حقيقياً على المجتمع الفلسطيني، وتطلعاته الوطنية في الحرية والاستقلال وإقامة الدولة، ومن ذلك إطلاق النار، وعمليات الاختطاف، والترويع، والاعتقالات الجارية على قدم وساق، والحرب الإعلامية ونشر الغسيل على الفضائيات، وهي ظاهرة غريبة ومستهجنة لدى المجتمع الفلسطيني، وهذه المظاهر الفوضوية تقابل بالاستهجان والرفض على أوسع نطاق، لأنها مؤشر خطير على هشاشة الموقف الفلسطيني، وضعف أداء السلطة الوطنية بطرفيها (فتح ) و (حماس)، الذي يراقبه العدو عن كثب، ويبحث عن الثغرات لتحقيق أكبر قدر من الهيمنة وتكريس الاحتلال وسلخ القدس ومعظم أجزاء الضفة الغربية، كما أنها تسيء لسمعة الفلسطينيين، وتظهرهم أمام العالم على أنهم خليط من الرعاع والإرهابيين، والمجموعات البدائية والفوضوية المتصارعة التي لا تحافظ على شرف السلاح، الذي ترده إلى صدورها بعد أن قاتلت به العدو الذي يتفوق عليها عدداً وعدة، وأظهرت في ذلك بطولة نادرة، وبالتالي فإن هذه المظاهر الفوضوية الشاذة وإن بدت شكلاً من أشكال الاحتجاج، فإن إسرائيل تسوقه أمام العالم على أن الشعب الفلسطيني لم يبلغ سن الرشد، ولا يستحق دولة مستقلة في الضفة الغربية وغزة.
الأزهار والأشواك
لقد أصابت الإجراءات الإسرائيلية من قتل وتدمير وخراب بيوت، وما يفعله قطعان المستوطنين من عبث واستهتار وسرقة للأرض نفراً من الناس بنوبات عصبية أفقدتهم صوابهم، بحيث بدأت بوادر مرحلة اللاوعي، أو الهلوسة، من قبل أعداء المجتمع الفلسطيني الذين يطعنونه من الخلف، وينشرون في أوصاله اليأس، ويدخلونه في متاهات لها أول وليس لها آخر، إضافة إلى أنهم ينقلون المعركة ضد أبناء شعبهم، بدلاً من أن تبقى موجهة ضد الاحتلال وأعوانه، مما يتيح الفرصة السانحة للاحتلال كي ينفذ أطماعه في سرقة الأرض، وتهويدها، وهدم الأقصى إلى غير ذلك من المخططات الجهنمية التي تسعى لتنفيذها إسرائيل وقطعان المستوطنين .
الخروج عن القانون
قد يبدو الأمر غريباً بعض الشيء حيث إن التاريخ ما زال يكرر نفسه بعد مضي قرابة الستين عاماً على احتلال فلسطين، وقيام إسرائيل، وأن البحث عن الزعامات الشخصية في ظل الاحتلال ما زال الشغل الشاغل عند هؤلاء من أجل الوجاهة الاجتماعية، أو تحقيق مصالح اقتصادية، ومن أجل الدفاع عن مواقعهم حتى آخر رمق يندفع البعض منهم إلى استخدام أساليب البلبلة والإثارة والتمرد لتصفية الحسابات في الوقت الذي تداهم الجميع الدبابات، وتقصف الطائرات كل دابة في الأرض.
إن هذه الحالة من التسلل الإسرائيلي ما عادت تتم في ظلمات الليل في الحياة الفلسطينية بل في وضح النهار، لأن أربعين عاماً من احتلال الضفة وغزة كانت كافية لأن تنشئ إسرائيل تنظيماً من العملاء يفوق حماس وفتح وجميع التنظيمات الفلسطينية عدداً وعدة، وهذا لا ينفي أصالة الشعب الفلسطيني ووطنيته وتضحياته العظيمة، لكن العملاء يجدون في الأجواء الحالية متنفساً لهم، وتستخدمهم إسرائيل للإطاحة بكامل المشروع الوطني الفلسطيني.
إن الاختلاف في الرأي لا يفسد للود قضية، بل إن من أبجديات ما يتعلمه المناضلون في سبيل الحرية الوطنية هو الشعار الذي رفعه أحد الفلاسفة (قد أخالفك في الرأي، لكني على استعداد للتضحية بحياتي من أجل حقك في إبدائه)، ولعل الممارسة الديمقراطية، والحوار الأخوي، وسعة الصدر، واللقاء على موقف موحد، هو البديل عن كل هذا البازار، ومن شأنه أن يدلل على نضوج التجربة الفلسطينية، وقدرة الجانب الفلسطيني على التعامل مع الأحداث السياسية بموضوعية، لذا فإن محاولات جر المسيرة إلى الخلف من قبل البعض يدل على أن هؤلاء غير مغموسين بالهم الوطني، ولا يعنيهم إلا الحفاظ على مكتسباتهم ومصالحهم الشخصية.
كان الرئيس المرحوم عرفات متهماً بالفردية والديكتاتورية، وكان يصف الديمقراطية الفلسطينية بأنها (سكر زيادة) وكان يتعامل مع فلسطينيين يعلم أنهم عملاء للاحتلال، ويستخدمهم لمصلحة القضية، وحين مات عرفات رأينا شكلاً من أشكال الإقصاء وتصفية الحسابات السياسية، والصراع المحتدم على فرض الوصاية على القرار الفلسطيني، وعلى السلطة التي يحملونها أكثر مما تحتمل، تاركين للجانب الإسرائيلي الذي لا يحترم تعهداته بالطبع، ولا يتعامل بمنطق الطرف الذي يسعى إلى السلام الفرصة السانحة كي يحقق أشياء جديدة على الأرض.
لقد عرف الإسرائيليون كيف يقتسمون بينهم الأدوار، لذا مضى على تواجدهم في الضفة الغربية وغزة قرابة أربعين عاماً، يا لهول الكارثة والمصيبة!!
لكن ما يحدث في الأرض المحتلة يثير القلق، والشعور بخيبة الأمل، ليس من قبل الشعب الفلسطيني الذي قاوم الدبابات بصدوره العارية، ونزف حتى الشهادة، حيث لم يهنأ الإسرائيلي باحتلاله، ولم يشعر بالراحة والهدوء والاطمئنان، بفضل التضحيات الجسام لكن ما يدعو للحيرة أن البعض يصر على أن يكون فوق القانون، وأن الحل الصحيح للقضية الفلسطينية هو ما يرتأيه هو، وما تتمخض عنه بنات أفكاره، وأيديولوجيته الفكرية والسياسية، بل إن مثل هذه التيارات تحاول أن تنزع ثوب البساطة والمحبة والقيم الاجتماعية الجميلة المتوارثة، وتلبس المجتمع لبوس الأيديولوجيا والإرهاب والتزمت الفكري، ومثل هذه المفاهيم المنغلقة تؤدي إلى اشتعال النار بين أبناء الشعب الواحد، وانفجار بركان من الغضب المكبوت الذي كان ينبغي أن يبقى موجهاً ضد الاحتلال وعملائه لإجبارهم على الهزيمة والاندحار.
إن السلطة الفلسطينية هي خيمة الفلسطينيين الشرعية في هذه المرحلة، لذا ينبغي إصلاح المؤسسات الفلسطينية من الداخل، وتقوية العلاقات الفصائلية، عن طريق مشاركة جميع القوى الوطنية والإسلامية في اتخاذ القرارات الحكيمة التي تخرج الجميع من دوامة الدوران في فلك التعصب للرأي، والتشهير الإعلامي، والمزايدات المكشوفة على الشعب والقضية.
المناضل الإرهابي
لا بد من إلقاء القبض على اللصوص، والمرتشين، والمتهمين بالفساد وسرقة أموال الشعب، وتجار المخدرات، وتقديمهم للمحاكمة حتى تستعيد السلطة زمام الأمور، والمصداقية من قبل شعبها، وقبل ذلك على الجميع أن يتوحدوا، وينسقوا فيما بينهم، حتى لا تبقى الأرض الفلسطينية مسرحاً للأتاوات وفرض الخاوات من قبل بعض الحمقى والعملاء والمتاجرين بالقضية، وبالتالي يحول الإنسان الفلسطيني سلاحه إلى نحره، ويصبح في نظر العالم الخارجي إرهابياً أرعن، وهو الذي تمرس في الكفاح والسياسة ووصل إلى قمة الوعي وبعد النظر والحرص على قضيته، ينبغي المحافظة على شرف السلاح الفلسطيني ومشروعيته الذي يقاوم الاحتلال بصورة تترآى أمام الآخرين بأنه رمز للحرية والعدالة.
إبداع وتضحية
إن الشعب الفلسطيني ما زال مصراً على التضحية طالما أنه يرى أن له أحقية في الأرض رغم ظروفه الصعبة والمريرة، وهو مصر على الإبداع العلمي والاجتماعي والسياسي، لذا لا بد أن يعطى المجال للقوى الصاعدة كي تأخذ دورها، وهو ما يؤدي إلى تصويب المسيرة، ووضع الشخص المناسب في المكان المناسب، وهو ما يعني القضاء على العديد من الأمراض البيروقراطية المزمنة، وكلما تطورت المسيرة الديمقراطية، كلما خفتت صرخة المزايدين، وضربت مصالح المنتفعين، وتم الحفاظ على أموال الشعب من أيدي اللصوص، وتجار الصفقات، وصار القرار الفلسطيني موحداً وطنياً معتدلاً واقعياً في الداخل والخارج.