هذا قول مأثور يتمثل بوضوح في أبيات من الشعر العربي في مختلف العصور، منها: |
- خُلقْتُ من الحديد أشدّ بأساً |
وقد بَلي الحديدُ وما بليتُ |
- ما شئت لا ما شاءت الأقدار |
فاحكم فأنت الواحد القهّار |
- ونحن أناس لا توسط بيننا |
لنا الصدر دون العالمين أو القبر |
- وأخفتَ أهل الشرك حتى أنه |
لتخافُك النّطفُ التي لم تخلق |
- وكلّ ما خلق الله وما لم يخلق |
محتقر في همتي كشعرة في مفرقي |
- بيض صنائعنا خُضْر مرابعنا |
سوء وقائعنا حُمر مواضينا |
- وإني لمن قوم كأنّ نفوسهم |
بها أنف أن تسكن اللحم والعظما |
- معلّلتي بالوصل والموت دونه |
إذا متُّ (ظمآناً) فلا نزل القطر |
- واستبدَّتْ مرّة واحدة |
إنما العاجز من لا يستبدّ |
- إذا بلغ الفطام لنا رضيع |
تخرّ له الجبائر ساجدينا |
ملأنا البرّ حتى ضاق عنّا |
وماء البحر نملؤه سفينا |
ونشرب إن وردنا الماء صفواً |
ويشرب غيرنا كدراً وطينا |
- وعلّمنا بناء المجد حتى |
أخذنا إمرة الأرض اغتصابا |
- وما نيل المطالب بالتمني |
ولكن تؤخذ الدنيا غلابا |
أنا لا أعرف شعراً في الآداب العالمية كلها له هذه النكهة العنترية الصاخبة والنبرة العدوانية العالية وفيه هذا المقدار الكبير من الألفاظ الحادة والمعاني المتوحشة والأغراض المذمومة التي رأيناها مجتمعة في الأبيات السابقة. |
ولم ينظم أحد - فيما أعلم - مثل هذا الشعر في الآداب العريقة كالأدب الإنجليزي أو الفرنسي أو الألماني أو الإيطالي أو الإسباني أو اليوناني أو الروسي أو الأردي او الصيني، ولا في الأدب العبري أيضاً على الرغم من أن العرب واليهود ساميون ينتمون إلى أصل واحد، فسبحان خالق الأمزجة المتفاوتة وقاسمها وموزعها على خلقه المختلفين. |
والغريب أن النقاد العرب وسموا هذا الشعر ونحوه بقولهم: (أعذب الشعر أكذبه)؛ فاستعملوا صيغتي مبالغة للدلالة على الكثرة ،ولم يكفهم القول: (عذبُ الشعر كاذبه) بصيغتي الصفة المشبهة واسم الفاعل العاديتين. |
وإذا كان هذا الشعر الأكذب هو الأعذب؛ فماذا عسانا نسمي الشعر الرائع فعلاً وحقاً كقول عليّ بن أبي طالب: |
لا دار للمرء بعد الموت يسكنها |
إلا إذا كان قبل الموت يبنيها |
فإن بناها بخير طاب مسكنه |
وإن بناها بشر خاب بانيها |
أموالنا لذوي الميراث نجمعها |
ودورنا لخراب الدهر نبنيها |
كم من مدائن في الآفاق قد بُنيت |
أمست خراباً وأفنى الموت أهليها |
لا تركننّ إلى الدنيا وزخرفها |
الموت لا شك يُفنينا ويُفنيها |
|
يغطي عيوب المرء كثرةُ ماله |
يُصدّق فيما قال وهو كذوب |
ويُزري بفعل المرء قلّة ماله |
يحمّقُهُ الأقوام وهو لبيب |
|
لقد أسمعت لو ناديت حيّاً |
ولكن لا حياة لمن تنادي |
ولو ناراً نفخت بها أضاءت |
ولكن أنت تنفخ في رماد |
|
وإنّ أشعر بيت أنت قائله |
بيت يقال إذا أنشدته صدقا |
|
أماويُّ إن المال غادٍ ورائح |
ويبقى من المال الأحاديث والذكر |
أماويّ ما يغني الثراء عن الفتى |
إذا حشرجت يوماً وضاق بها الصدر |
|
الرأي قبل شجاعة الشجعان |
هو أول وهي المحلّ الثاني |
|
غير مُجدٍ في ملتي واعتقادي |
نَوحُ باكٍ ولا ترنّم شاد |
وشبيه صوت النّعي إذا قيس |
بصوت البشير في كلّ ناد |
صاح هذي قبورنا تملأ الرحب |
فأين القبور من عهد عاد |
إن حزناً في ساعة الموت |
أضعاف سرور في ساعة الميلاد |
|
رأيتُ الدّهر يرفع كلّ وغدٍ |
ويخفض كلّ ذي زنةٍ شريفه |
كمثل البحر يغرق فيه دُرّ |
ولا ينفك تطفو فيه جيفه |
وكالميزان يخفض كلّ وافٍ |
ويرفع كل ذي زنة خفيفه |
|
تعالى الله يا سلم بن عمرو |
أذلّ الحرصُ أعناق الرجال |
هب الدنيا تُساق إليك عفواً |
أليس مصير ذاك إلى زوال |
|
ومن غدا لابساً ثوب النعيم بلا |
شُكرٍ عليه فإنّ الله ينزعه |
|
لكل شيء إذا ما تم نقصان |
فلا يغرّ بطيب العيش إنسان |
هي الأمور كما شاهدتها دول |
من سرّه زمن ساءته أزمان |
|
نعيب زماننا والعيب فينا |
وما لزماننا عيب سوانا |
ونهجو ذا الزمان بغير ذنب |
ولو نطق الزمان لنا هجانا |
وليس الذئب يأكل لحم ذئب |
ويأكل بعضنا بعضاً عيانا |
يمكنني القول - بعدما سبق - بأن السمات العنيفة شديدة المبالغة وبالغة التعالي والتفذلك والتفاصح في اللون (الأكذب) من الشعر العربي هي التي تدغدغ النفوس غير السوية بالخيال الفارغ من أي مضمون جدّيّ، وبالشعور الطاغي بالعظمة الجوفاء والتفوق الموهوم. ويبدو أن هذه السمات هي التي حملت الأديب والعالم والمفكر المعروف الشيخ عبدالله القصيمي على تأليف كتابه الشهير (العرب ظاهرة صوتية). |
إن ما عرضته في البداية من شعر (المنفخة) الحماسي - كنموذج - يتضمن كلاماً كبيراً جداً يقابله فعل متواضع للغاية، وهو كلام يجعلنا نعطي أنفسنا حجماً زائفاً ضخماً ليس لنا في حين أعطى الأعداء واقعاً مطابقاً أو مقارباً لإمكاناتهم الحقيقية؛ ولهذا هُزمنا وانتصروا دائماً، وكسلنا ونشطوا باستمرار، وتأخرنا وتقدموا في جميع الأوقات. |
ومن المؤسف أن يدرس طلابنا هذه القصائد المفترية المليئة بالنفاق الرخيص والأنانية المفرطة والادعاء الكاذب، بدلاً من دراسة الشعر الصادق الرصين الجميل الجزل الأنيق العميق الممتلئ بحكمة شعرائنا الفحول في كل العصور ورصانتهم وتجاربهم، وهو كثير جداً في تراثنا الشعري العظيم، ليفاجأوا في نهاية المطاف بعد أن تصدمهم حقائق الحياة وتظهر لهم كما هي وليس كما يتوهّمون بأن هذا الشعر الخرافي الأجوف الذي درسوه في المدارس وحفظوه عن ظهر قلب وصدّقوه وردّدوه بفخر واعتزاز وَهْمٌ في وهم وتهويل بعيد عن الصدق بُعدَ السماء عن الأرض مما قد يؤدي إلى انفصام في الشخصية فضلاًَ عن خيبة الأمل. |
أخيراً أقول: كم كنت أتمنى أن لا أجلد الذات وأن يكون عنوان هذا المقال (أعذب الشعر أصدقه)، وهو ما كان يبنغي أن يصبح عليه شعرنا، وذلك بدل العنوان الحالي، ولكن - للأسف الشديد - ما باليد حيلة كما يقال. |
أ. د. عبدالكريم محمد الأسعد |
أستاذ سابق في الجامعة |
|