Al Jazirah NewsPaper Thursday  31/01/2008 G Issue 12908
الخميس 23 محرم 1429   العدد  12908
استشراق.. من دون مستشرقين!
حسين أبو السباع

ليس عجباً أن نرى اليوم على صفحات الصحف العربية من يتشدقون بأفضال الغرب على الشرق بوجه عام، وربما يستخدمون كلمة (الاستعمار) التي كان يستعملها المحتل خلال القرن الفائت، لإخفاء الهدف الأصلي من

(الاحتلال) وهو السيطرة على مقدرات البلد المحتل، بدلاً من كلمة (الاحتلال)، ويحاولون ترسيخها، ومن السخيف أن الكلمة الأولى لا تزال متداولة في الكتب الدراسية إلى الآن، من دون تبيين الفرق بينهما بوضوح، فتنشأ أجيال تتصور أن الاحتلال استعمار، أو أن الكلمتين مترادفتان، والفرق بين المعنيين كبير جداً.

وليس عجباً أيضاً أن يصف الجهلاء الذين يسودون الصحافة العربية بما يكتبون رموزاً من المفكرين العرب علانية أو ضمناً بالجهل والسفه، لأنهم يرون عكس ما يرون الآن متجاهلين الفارق الزمني والحضاري، كما أنه لا يعتبر عجباً أيضاً أن نرى هذا الكلام الأسود يملأ صفحات الجرائد العربية من مشدوهين بالحضارة التي أرعبتهم حينما رأوها ناسين متناسين وضعهم الصعب في بلدانهم النامية أو التي في طور النمو، أو التي لا تملك حضارة من الأساس.

لم يأتني العجب لأني أشبههم بالمراهقين الذين يتصورون عن الغرب المثال والنموذج، كما كان في الماضي من يتصور منهم حلم السفر إلى بلاد العم سام، يتلخص المنجز الحضاري بالنسبة إليه في (امرأة شقراء جميلة، وحفنة دولارات)، هذا هو الهدف الذي يسعى المراهق لاجتيازه والسفر لأجله، وحين يسافر لا يستطيع التأقلم مع المجتمع الجديد الذي سافر إليه ولا يعرف عن حضارته غير القشور، فيتقوقع داخل مجتمع جديد يشعر فيه بعقدة النقص تسيطر عليه تماماً ربما لسنوات طويلة يحياها في مهجره، وحين يرجع إلى بلاده يخترع لنفسه شخصية غريبة عنه لم يعشها، يصور للجميع أنه أبلى بلاءً حسناً في مهجره، وأنه ربما كان مرشحاً لرئاسة الدولة هناك.

مراهقون يصورون لأنفسهم أموراً لا وجود لها على أرض الواقع، ومن ضمن الأمور التي يثبت بها أنه قد تشبع بالحضارة الغربية أن ينظر بازدراء إلى رموز الثقافة العربية ورواد التنوير الذين أخذوا من الغرب ما ينفع مجتمعاتهم من تنوير وترك ما دون ذلك، وقد ارتفعوا عن مثل هذه المراهقات التي يدعيها اليوم بعض كتابنا الأفاضل من دون أن يقدم لنا أحدهم منجزاً خاصاً به!

يستخدمون مرادفات مثل (أنا أتصور، أنا أرى، في الواقع أنا...، وأنا...، وأنا...) والسؤال: من أنتم حتى تتصورون، أو ترون، أو تكررون (أنا) مرات عديدة في أقوالكم؟ فحين يسأل أحدهم عن مفهوم الهوية، قد يعجز عن مجرد التعريف أو التفسير أو الشرح.

ربما لأنه لا يعرف هويته - ربما-!

لا ينكر إلا أحمق أو جاهل الحضارة الغربية والتقدم المذهل في الاختراع المفيد للبشرية، كما لا ينكر إلا أحمق أو جاهل أيضاً الحضارة العربية التي ارتكزت على ما يفيدها من الدين والعلم، لكن هذا لا ينفي النقد البناء السليم القائم على وجهة نظر منطقية، وليس النقد القائم على إحالة كل الأمور التي لا نرى حقيقتها إلى نوازع خاصة سوداء تعشش فينا.

الاستشراق، كان ولا يزال عملاً مشوقاً لمن يعمل فيه أو لمن ينقل عنه، لأن المستشرق ينقل الروايات الشيقة التي تروج لما يقوم به أكثر من اهتمامه بأن ينقل الحقيقة، المستشرقون كانوا قديماً -وهذا القديم ليس ببعيد- من أبناء الغرب وكانوا يسافرون إلى بلدان الشرق إما مع القوات المحتلة وإما لهوى في نفوسهم قد يصل إلى حد الهوس بالشرق وجماله الذي سمعوا عنه كثيراً من دون أن يروه، وأيضاً في ظل حكم الاحتلال، ليقوموا بعمل استكشافات أو نبش فيما نعتقد أنه ثوابت، فيعملون على التشكيك فيه والسخرية منه، وتأليف الكتب التي تفند هذه الأمور، وتحويلها إلى مجرد تسلية لقارئ الكتاب من غير الناطقين بالعربية.

هذا على الرغم من أنه غير مقبول من أبناء حضارة مغايرة للحضارة التي يسخر منها، إلا أنه يزداد رفضاً، بل ويكتسب احتقاراً حينما يصدر عن أبناء الحضارة التي يسخر منها المستشرق، فلكي يقنعنا هؤلاء الجهابذة أنهم سافروا إلى بلدان ربما لم يرها البعض، أو أنهم أصحاب وجهة نظر، أول ما يقومون به هو السخرية من حضارتهم العربية ورموزها، والدخول في اللعبة من بدايتها؛ وهي التشكيك في الثوابت الدينية، والدخول في الجدل، (جدل من أجل الجدل)، لا من أجل الوصول إلى نتيجة منطقية متحصلة من هذا الجدل، فيصير جدلهم فارغاً من أي منطق، أو ربما يحمل منطقاً مغلوطاً ربما لمرض في نفوس هؤلاء الكتاب أو لجهل مطبق، ناسين متناسين الفرق والفرق الكبير بين مرحلة التنوير التي كان الاحتلال خلال القرن الفائت يعمل على عدم وصولها إلى الشعوب المحتلة، وبين التفاعل الحضاري بين الشرق والغرب، وهو المنطلق الأساس من أجل الاستفادة المتبادلة بين الحضارات، وليس السخرية وادعاء أفضلية لا نملكها، ولا نملك من هذه الأفضلية سوى الكلام الممجوج المليء بالأمراض والكراهية لمن سبقنا بالحضارة.

الاستشراق الذي كان عملاً يحتاج لمستشرقين كي ينجزوه بسخريتهم المعتادة من كل ما نحترمه نحن من أخلاق، أصبح الآن لا يحتاج لمستشرقين؛ فيكفي ما يكتب الآن على الصفحات العربية من سخرية تجاه الحضارة العربية نفسها، ومن البلدان العربية أيضاً، ليظهر نوع جديد من الاستشراق - وهو الأخطر- لكن من دون مستشرقين!.



aboelseba2@yahoo.com

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد