يحتاج أولادنا وقتاً أكثر من ذلك الذي نعطيه لهم، فكثير من الآباء وبعض الأمهات يعطون الأولوية لارتباطاتهم خارج البيت سواء كانت هذه الارتباطات هي ارتباطات العمل أو الوظيفة أو العلاقات الاجتماعية دون النظر إلى أهمية إعطاء أولادهم نصيبهم من هذا الوقت. وقد استطاع رجال ونساء كثر تحقيق نجاحات كبيرة في أعمالهم التجارية والوصول إلى أعلى المراتب في خدمة الصالح العام من خلال نشاطهم الاجتماعي، ولكنهم نسوا أن يتذكروا أنهم أثناء ذلك اللهاث وراء المال والمكانة والسمعة أن لأولادهم عليهم حقاً قد أضاعوه، وأن المال والوجاهة الاجتماعية التي يمتلكها الأب أو الأم أو كلاهما معا قد تكون نقمة على الأبناء لا نعمة، فالخادمة في البيت لا تغني عن حنان الأم واهتمام الأب، والمدرسة لا تغني عن تربية الوالدين، وأن المال الذي يجري في يد الأبناء بيسر قد يساعد على إفسادهم أكثر من إصلاحهم لأنه يقتل طموح العمل من أجل الحصول على شيء يجد نفسه قد حصل عليه بدون بذل!
قد نستطيع أن نشتري لأولادنا أفضل دور التعليم، ولكننا لا نستطيع أن نشتري أفضل دور التربية لأن التربية ليس لها -ابتداءً- إلا داراً واحدة هي بيت الأسرة ومعلمين اثنين هما الوالدن، وما لم يتلقَ الطفل أول دروسه في التربية في بيته وعلى يد والديه فإن أي تربية أخرى له ستكون محدودة النجاح؛ لهذا قيل في المصطلح المتداول (التربية والتعليم)، إذ لا بد أن تسبق التربية التعليم، ولا يؤتي التعليم ثماره دون تربية، وما زالت مجتمعاتنا تعاني من المتعلمين الذين بلغوا أعلى مراتب العلم دون تلقي التربية الكافية واللائقة، فيصعب الاستفادة من علمهم؛ لأن التربية وسيلة التعليم الحقة والصحيحة وفاقد الشيء لا يعطيه!
إذا جعل كل أب أو أم - دون أن يشعر - الأنشطة التي يقوم بها خارج بيته على حساب أولاده، وظن الأب أنه بانصرافه كلياً إلى عمله إنما هو يؤمن لهم الحاضر والمستقبل، فليعلم أنه إذا استطاع بالمال أن يؤمن لهم الحاضر فإن المال وحده لا يؤمن المستقبل، فالمستقبل يعتمد على تربية هؤلاء الأبناء وتعليمهم، فما أكثر المال الذي خلفه الآباء بشق الأنفس ثم أضاعه الأبناء الذين بخل عليهم هؤلاء الآباء بوقت للتربية ومساحة للتعليم. والحقيقة الذهبية هي أن نربي أبناءنا أحسن تربية ونمكنهم من أفضل أنواع التعليم ولا نبخل عليهم قط بوقتنا في التربية ولا بمالنا في الإنفاق السخي على تعليمهم حتى لو تركناهم بعد ذلك فقراء فسيشقّون طريقهم بعصا موسى في بحر الحياة وسنراهم من أغنى الناس وأفضلهم.
يتفق التربويون من علماء النفس والاجتماع أن بعض الوقت يقضيه الأب وكثير من الوقت تعطيه الأم للأبناء من برنامج الحياة اليومية في البيت يصنع لهم شخصيات سوية مستقرة، وراحة نفسية مضيئة، ونفوساً مقبلة على الحياة. فما أروع الجلسة العائلية الجامعة التي يلتف فيها الأبناء حول والديهم، وتناقش الأسرة فيها مستجداتها وتعالج مشكلاتها بوضوح وصراحة وصدق دون خوف أو تردد، يشجع الأب هذه الروح ويحث عليها، ويمنحها الأمان والثقل بوجوده بينهم وضمانه لحرية الكلام بأدب والتحاور بلطف فيما بينهم، وترى الأم كل ذلك وتشارك فيه - بحكم احتكاكها أكثر بأبنائها - بما يعين الأب على إرساء كل سفينة على بر الأمان.
تفقد أحوال الأبناء والاهتمام بهم والاقتراب منهم الاقتراب الصادق الودود الذي يجعلهم يبوحون لنا فيه بمشكلاتهم هو أفضل وسائل تربية أبناء وبنات المستقبل الآمن، وهذه المهمة لا تقوم بها الأم وحدها بل هي أيضا دور أساسي من أدوار الأب في البيت؛ ذلك لأنه إذا ما شعر الأبناء بهذا الاقتراب الحميم من الوالدين استغنوا عن الاستعانة بمستشارين من خارج البيت، وكفوا عن البوح بأسرارهم لأصدقائهم. ولن يتحقق نجاح الآباء في هذه المهمة إلا بإشعار الأبناء بالثقة والأمان وعدم إرهابهم أو تخويفهم أو إقامة حواجز بينهم وبينهم، وعلى الآباء الاعتقاد جزماً أن هذا الاقتراب لن يقلل من احترام أبنائهم لهم بل يزيده محبة وقوة، فالتربية بالحب أدوم وأكثر نجاحاً من التربية بالخوف التي تقود إلى الكذب والتظاهر والخداع.
ما أكثر حاجتنا للجلوس مع أبنائنا وإعطائهم وقتا أكثر لا نقضيه في تعليمات ونصائح وأوامر بل نشعرهم بالود والمصادقة، ونتحدث معهم ونحترمهم بالجدية نفسها التي نتحدث فيها ونحترم أفضل أصدقائنا، فأولادنا أولى بنا وأقرب وأحب إلينا، فبقليل من الوقت نكسبهم ونصنع منهم رجالاً ونساءً يفاخر بهم مجتمعهم.