تطل علينا ذكرى الهجرة في كل عام من أعوام الأمة. تحل هذه الذكرى لتذكرنا بالحدث الذي أحدث تحولات عظيمة في التاريخ الإنساني. لقد فشل أشرار الجاهلية في إيقاف مسيرة الهجرة النبوية، كما انهزم أشرار العصور عبر القرون الهجرية في إطفاء أنوار الهداية للبشرية. فأضاءت تلك الأنوار الآفاق بعد رحلة مخلدة أبد الدهر ما بين مكة المكرمة والمدينة المنورة.
وها هو جبل ثور الشامخ في جنوب مكة المكرمة، وهو من أوتاد الأرض الشاهدة على رحلة الهجرة الخالدة، وفيه الغار الذي دخله المصطفى - صلى الله عليه وسلم - مع الصحابي الصديق - رضي الله عنه - لكيلا ترصدهما عيون الجاهلية في بداية رحلة الهجرة. وخلد القرآن الكريم الحدث والمكان في قوله تعالى: {إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}(40)سورة التوبة.
وها هو مسجد قباء في جنوب طيبة الطيبة تتلألأ منه الأنوار، وهو المسجد الذي أسسه المصطفى - صلى الله عليه وسلم - مع الصحابة الكرام - رضي الله عنهم - بعد وصوله - صلى الله عليه وسلم - برفقة الصديق - رضي الله عنه - إلى دار الهجرة وهو المسجد المخلد في قول العزيز الحكيم: {لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ}(108)سورة التوبة.
عندما كان الخليفة عمر بن الخطاب أميراً للمؤمنين في أول عاصمة للدولة الإسلامية بدار الهجرة بدأ بتنظيم شؤون الدولة، كما تشاور مع وجوه الصحابة - رضي الله عنهم - بخصوص وضع تاريخ يرصد بشكل منظم عدد توالي الأعوام والأشهر؛ من أجل توثيق المكاتبات والأحداث زمانياً في التاريخ الإسلامي. وقدم الصحابي علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - المشورة بأن يبدأ التاريخ من الهجرة النبوية لأن وقت هذا الحدث العظيم معروف وموثق عند أبناء الأمة. فقال الفاروق - رضي الله عنه -: (الهجرة فرقت بين الحق والباطل فأرخوا بها، وبالمحرم لأنه منصرف الناس من حجهم). وبدأ التاريخ الهجري للأمة في يوم الجمعة غرة محرم عام واحد هجرية. وكان ذلك الاجتماع التشاوري الذي ظهر فيه التقويم الهجري للأمة في يوم الأربعاء المصادف للعشرين من جمادى الآخرة في عام 17 هجرية.