في ظل ما يعاني منه لبنان من شلل سياسي وفراغ رئاسي وتضخم في ذات فرقائه المفعمين بالإرث التاريخي للحزب والطائفة والمذهب يعتبر أخطر ما يهدد أمن البلاد ومشروع عيشها المشترك واستقرارها هو النزول إلى الشارع، ونقل سجالات السياسة إليه، فمتظاهرو الشوارع ليسوا كالسياسيين يقدمون, ويتقهقرون, يناورون ويفاوضون، بل هم الديماغوجيا الخاصة بالمجتمع وضحايا التسييس الذين ما إن تصدر إليهم الاشارة حتى يعيثوا فساداً ويدمروا ويخربوا ويقتلوا، ويتحولوا مع الوقت إلى مشكلة جديدة تضاف إلى المشاكل الرئيسية التي كان تحريكهم وإثارتهم في الشارع كمحاولة لحلها, حسبما يظن المراهنون على قوة تحريك الشارع والاستقواء به.
بل ان الأخطر من ذلك أن تسييس الشارع واللجوء إليه لمحاولة الكسب السياسي من قبل بعض الأطراف في لبنان قد أفرزت اشكالية ومعضلة توهان حقائق المسؤولية عمن يقوم بتلك التصرفات على أرض الواقع, والتي وصلت إلى القتل الذي يتبرأ كل فريق من مسئوليته، ويطالب بكشف المسؤولين عنه، لتمضي الأيام بالحقيقة ولا تدقيق، فتتراكم قناعات الثأر في الشارع وتترسخ فجوة الاتصال بين فئات المجتمع، ويكون الباب مفتوحاً في هذا الوضع لدخول طوابير خامسة ومجهولة لتنفذ اغتيالاتها وقتلها للبنانين، وتمرير مشاريعها التغلغلية من خلال تعقيدات الأزمة اللبنانية.
في ظل كل هذه العوامل والتعقيدات التي تكبل الحياة في لبنان وتخنق رئة الشعب، وفي ظل ايضاً مايبذله الجانب العربي من جهود مضنية وإيجابية لتنفيس الأزمة اللبنانية، لم يعد أمام اللبنانيين سوى الابتعاد عن قناعات تمييع وقتل المبادرات، التي قدمت ولازالت تقدم من المحيط العربي حرصاً على لبنان وصوناً لوحدته, والتي يخشى أن تساهم تلكؤات بعض الأطراف اللبنانية وتطرفها في المواقف في اضمحلالها وتلاشيها، كمقدمة لنفض اليد عن الملف اللبناني، وهو الأمر الذي إن حدث سوف يكون بمثابة فتح باب النفق المظلم لتهوي به جميع مقومات الهدوء والاستقرار، وتعود من جديد قناعات الاحتدام والصراع الطائفي وتمترس اللبنانيين داخل قوقعاتهم المذهبية والحزبية الضيقة التي بدأت بالظهور بملامحها الخطيرة من خلال اللجوء إلى الشارع والاحتكام إليه.