إذا خاطبت الغرائز فأبشر بكثرة من يسمعك ويستجيب إليك، لذا فإن القنوات الرخيصة دائماً ما تسعى إلى جذب الشباب من خلال مخاطبة غرائزهم، وإذا خاطبت العواطف فالكثير الكثير سيؤيدك ويتبعك ذلك
بأنك تعالج حالته العاطفية سواء كانت حالة فرح أو غضب، أما إذا خاطبت العقول فلن يصغي إليك ويشجعك ويتبعك إلا النزر القليل من أصحاب العقول الراجحة والخبرات المتراكمة والمعارف العميقة والعزيمة والصبر وهؤلاء هم أوتاد السياسة والاقتصاد والثقافة والمجتمع.
قضية التضخم قضية معقدة وشائكة ومؤلمة ومقلقة أيضاً، وهي تقلق الجميع انطلاقاً من رب الأسرة حتى القيادة العليا للبلاد، والتضخم يقلق رب الأسرة حيث يرى انخفاض قدراته الشرائية نتيجة الارتفاع في الأسعار والمصحوب بثبات الدخل وهو ما يشكل لديه هاجس عدم القدرة على الوفاء بمتطلبات الحياة الأساسية لأفراد أسرته فضلاً عن الكماليات التي أصبحت بحكم الضروريات.
قيادة البلاد يصيبها القلق أيضاً فهي المسؤولة أمام الله أولاً ثم أمام المجتمع ثانياً عن توفير سبل العيش الكريم للمواطنين وتجنيب المجتمع إفرازات العوز والفقر وضعف ذات اليد. أما المسؤولون في القطاعات الاقتصادية فيعلمون ماذا يعني انخفاض القدرات الشرائية لأفراد المجتمع وما يؤديه ذلك من كساد في تجارتهم. لذا فالجميع يتألم والجميع يقلق نتيجة التضخم، فما بالنا إذا كان التضخم يتزايد بشكل كبير ومستمر دون بارقة أمل بالحد من جموحه.
الحلول كثيرة خصوصاً تلك التي تستند إلى العاطفة أكثر من العقل، الحلول التي لا تعرف ماهية التأثيرات التراتبية على تحريك عنصر من عناصر التضخم على بقية العناصر على المستويين القريب والبعيد. ومن تلك الحلول العاطفية المطالبة بزيادة رواتب موظفي الدولة بسرعة كبيرة وبنسب عالية أيضاً، وهو حل يداعب عواطف الموظفين وأنا منهم بطبيعة الحال ولكنه في الواقع ما هو إلا محرقة للمال، إذ إنه سيؤدي إلى المزيد من التضخم الذي يأكل الزيادة ويصل إلى أصل الراتب قبل تلك الزيادة، فما الحل إذن؟
المتتبع للاقتراحات المطروحة من صناع الفكر والرأي الاقتصادي يجد الغث والسمين، يجد العقلاني ويجد العاطفي وهو الأغلب، ويجد حلولاً عجيبة تنطلق في مجملها من تجارب شخصية نجح أكثرها في ظروف غير التي نعيشها تماماً في ظل عولمة وتداخل اقتصادي غير مسبوق ونهضة اقتصادية عالمية في دول الكثافة السكانية (الصين والهند) لم يحسب لها أحد أي حساب. وبظني أن معظم تلك الحلول، وإن بدا لي جودة بعضها، لا تستند إلى أسس إستراتيجية سليمة أو واضحة.
رفع سعر صرف الريال السعودي مقابل الدولار، زيادة الرواتب، دعم المواد الغذائية الأساسية، بناء المساكن، وضع سقف أعلى لزيادة الإيجارات، دعم صندوق التنمية العقاري، تحمل فائدة القروض الإسكانية، مراقبة الأسواق، الضغط على التجار، محاسبة الجشعيين، ترشيد الاستهلاك إلى غير ذلك من الحلول المقترحة، ما هو الناظم بين تلك الحلول؟ أين هذه الحلول من المعادلة الاقتصادية الشهرية لكبح جماح التضخم وهي معادلة العرض والطلب؟ أين هذه الحلول من حجم السيولة؟ أين هذه الحلول من الرؤية الإستراتيجية للاقتصاد الوطني؟ أين هذه الحلول من نظرية السبع السمان والسبع العجاف؟ سؤال أطرحه على الجميع وأرجو الإجابة عليه خصوصاً من أعضاء مجلس الشورى الذين باتوا أكثر الناس طرحاً للحلول العاطفية في ظل أزمة شديدة تحتاج لعقول راجحة ذات رؤى إستراتيجية.
الجميع يعرف أن التضخم ينشأ عن زيادة في السيولة، وهذه السيولة تؤدي إلى ضغط شديد على المعروض فتختل المعادلة، فيصبح المطلوب أكثر من المعروض، فتطلق مسيرة التضخم شرارتها في قطاع ثم آخر، وهكذا فالقطاعات الاقتصادية مترابطة بشكل مباشر أو غير مباشر، وإذا كانت هذه الأسباب فالحل واضح ولكنه ليس بالسهل بكل تأكيد، الحل هو عكس المعادلة والمتمثل بزيادة الإنتاج لموازنة المطلوب، وهنا يجب أن نقف أمام كل الحلول المقترحة ونعرضها على هذا الحل لكي نتأكد فيما إذا كان الحل المقترح سليماً أو كارثياً.
رفع الرواتب سيزيد الطلب ولن يزيد العرض وهو ما يحسب لصالح زيادة التضخم، إذن هذا حل كارثي آنياً ومستقبلياً حيث ستعاني الحكومة من عدم قدرتها على الالتزام بتلك الزيادة حال انخفاض إيراداتها. وضع سقف للإيجارات سيقلل من الاستثمارات في القطاع العقاري وهذا سيقلل من العرض، وهو ما يرجح كفة الطلب على حساب العرض، إذن هذا حل كارثي أيضاً. تدخل الحكومة في الإنتاج وهي غير مؤهلة لذلك وفي زمن العولمة الذي يدعو للخصخصة سيؤدي لهرب المستثمرين في القطاع الخاص وهو ما سيرجح كفة الطلب على حساب العرض، وهذا حل غير منطقي أيضاً إن لم يكن هو الآخر كارثي، فالدولة إن استطاعت الإنتاج في السبع السمان فإنها ستقف عاجزة في السبع العجاف.
الحل المثالي لتغليب كفة الإنتاج على كفة الطلب وبما يحقق رؤية الحكومة في تعزيز دور القطاع الخاص ليلعب دوره كشريك حقيقي في تحقيق الأهداف التنموية يتمثل بدعم الحكومة لقوى السوق لتوفير السلع والخدمات بكميات كبيرة تفوق الطلب من خلال الآليات القوية التي تمتلكها والمتمثلة بقدرتها على إصدار تنظيمات محفزة، وقدرتها على دعم المنشآت الخاصة مالياً لرفع قدراتها وطاقاتها الإنتاجية، وقدرتها على تطوير البنى التحتية المحفزة للاستثمار والتوسع في الإنتاج، وكل هذه القوى يمكن للحكومة استخدامها وتوظيفها لمواجهة التضخم دون الخوف من إيرادات المستقبل، بل إن الأمر على العكس تماماً إذ تصبح الحكومة أكثر اطمئناناً في ظل وجود قطاع خاص وقوي ومنتج يوفر السلع والخدمات والفرص الوظيفية بشكل مستدام بعيداً عن تقلبات أسعار النفط.
إذن نحن ننتظر حلولاً عقلانية أيها العقلاء، فالحال لا يستقيم بطرح الحلول العاطفية، والخطر كل الخطر علينا جميعاً عندما يطرح العقلاء، أو من نظنهم بأنهم عقلاء، حلولاً عاطفية لا جدوى منها.
alakil@hotmail.com