لقد بدأت مسيرتي مع جامعة الملك سعود منذ عام 1380هـ - 1960م حين عُينت معيداً في قسم اللغة العربية في كلية الآداب، وكان يخوض غمار البناء رجل عُرف بحزمه ووطنيته وثقافته الواسعة وهو معالي الأستاذ ناصر المنقور- رحمه الله-. لقد كان فرحاً بنا نحن الطلائع الأول من المعيدين، وكان أعضاء هيئة التدريس آنذاك من قمم الفكر والمعرفة والعلوم في العالم العربي انتقاهم رجل له اليد الطولى على هذه الجامعة هو الأستاذ الدكتور عبدالوهاب عزام- رحمه الله- حيث شارك في غرس بذرة هذا البناء الذي أصبح شامخاً نعتز به نحن الذين شاركنا- ولله الحمد- بعد عودتنا في البناء.
وخلال سنة الإعادة عاد من بريطانيا شاب يحمل درجة الدكتوراه وهو أول سعودي يحمل هذا اللقب العلمي فكنا نجلس حوله ونستلهم من تجربته في بريطانيا ثم تسلم مقاليد إدارة الجامعة إنه معالي الأستاذ الدكتور المؤرخ عبدالعزيز بن عبدالله الخويطر، وقد عُرف الدكتور الخويطر بحزمه إذ استطاع أن يضع الجامعة على الطريق السليم، وأن يسير بها بتؤدة حيث أصبحت هناك أنظمة ولوائح وعاد الشباب الذين ابتعثتهم الجامعة بشهادات الدكتوراه فاحتفى بهم، ومد لهم يد العون والتشجيع، وفي عهده تسلم العائدون عمادات الكليات فكنت أول وكيل ثم أول عميد لكلية الآداب، ويشد الخويطر على أيدينا ومنه استفدنا كيف تكون الإدارة الحازمة، ثم سلم راية الإدارة إلى أحد هؤلاء العائدين وهو الأستاذ الدكتور عبدالعزيز بن عبدالله الفدا الذي كان له فضل الاستمرار في الدراسات والتخطيط لبناء مقر للجامعة فوضع مخططا طموحا شارك في وضع تصوره كل عضو من أعضاء هيئة التدريس، وكان الحد الأعلى لعدد الطلاب الذين سيدرسون في هذا المقر لا يزيد عن خمسة عشر ألف طالب، ولكن العدد حاليا فاق الخمسين ألفا أو كاد. وفي زمن إدارته للجامعة بدأت الجامعة تسلك طريقاً جديداً فكان الاحتفال بمرور خمس عشرة سنة على إنشاء الجامعة فكان أول احتفال تشهد مثله الجامعة بل المملكة، ولأول مرة يشاهد الناس العمداء والأساتذة والطلاب وهم يسيرون في صفوف متراصة وهم يلبسون عباءات صممت خصيصا بأطراف ملونة لكل كلية لونها فكان اللون الأبيض لكلية الآداب. تلك فرحة كبرى عاشتها الرياض وعاشها منسوبو الجامعة، وخاصة أن قد رأس هذا الاحتفال صاحب السمو الملكي الأمير فهد بن عبدالعزيز (خادم الحرمين الشريفين رحمه الله) كما بدأت الجامعة في عقد المؤتمرات والندوات، فكان مؤتمر رسالة الجامعة أول مؤتمر يعقد في الجامعة 1394هـ ثم توالت المؤتمرات والندوات العلمية، وتعد الندوة العالمية الأولى لدراسات تاريخ الجزيرة العربية التي عقدت 1397هـ أول انطلاقة لدراسات تاريخ الجزيرة العربية وآثارها، وسارت قافلة المؤتمرات والندوات العلمية في جميع الكليات والأقسام في مختلف التخصصات، ويكفي أن نشير إلى أنه ما بين 1394هـ، 1418هـ عقدت خمسة وستون مؤتمرا وندوة عالمية في رحاب جامعة الملك سعود.
وقد تسلم الراية في الجامعة الأستاذ الدكتور منصور بن إبراهيم التركي فكانت فترته مرحلة انطلاقة تاريخية إذ فيها بُنِي مقر الجامعة بكلياتها ومعاملها وإدارتها ومطابعها ومكتباتها، كما وجدت الأبحاث العلمية فرصتها للتقدم والازدهار، وكان مما صحب ذلك عودة عدد كبير من المبتعثين ففتحت أقسام وأضيفت تخصصات فرضتها ظروف العصر، ولعل أبرزها إنشاء مركز خدمة المجتمع والتعليم المستمر الذي قدر لي أن أديره قرابة عشر سنوات منذ 1402هـ ثم تحول إلى عمادة، وكانت لاستجابة الدكتور التركي لتنفيذ كل مشروع أو بحث علمي بكل ترحاب وأريحية خير مساعد على التفاعل في جميع المجالات، وفي عهده كان الاحتفال بمرور ربع قرن على مسيرة الجامعة فكان احتفالا بهيجا سُخرت من أجله الوسائل والخبرات جميعها، وشرف ذلك الاحتفال صاحب الجلالة الملك خالد بن عبدالعزيز- رحمه الله- وفيه أمر جلالته بالعودة إلى الاسم القديم للجامعة (جامعة الملك سعود) بدلاً من مسمى (جامعة الرياض). ولقد كانت الفترة التي قضاها الأستاذ الدكتور منصور التركي هي أزهى عصور الجامعة.
وتسلم الراية من بعده زميلنا الأستاذ الدكتور أحمد بن محمد الضبيب في شعبان 1410هـ وذلك قبل خمسة أشهر من غزو الكويت، ولنا أن نتصور الظروف التي أحاطت بكل شؤوننا التعليمية والثقافية والاقتصادية، ومع ذلك حاول الدكتور الضبيب عمل ما يستطيعه في الرفع من مستوى البحث العلمي وأنظمة الترقية العلمية وفك التداخل بين كليتي الآداب والعلوم من جهة وكلية التربية من جهة أخرى وإنشاء كلية اللغات وغير ذلك من الأنشطة العلمية رغم شدة الظروف التي أشرت إليها وما تلاها من ظروف وخلال تولي الدكتور الضبيب إدارة الجامعة اختارني خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز- رحمه الله- عضواً في الدورة الأولى لمجلس الشورى وذلك في عام 1414هـ. وفي غرة شهر ربيع الأول عام 1416هـ تسلم الراية الأستاذ الدكتور عبدالله بن محمد الفيصل.
وكمراقب للجامعة عن بعد أشعر أن الجامعة قد أصبحت تحت مظلة وزارة التعليم العالي ومجلس التعليم العالي ويرأس مجلس الجامعة معالي وزير التعليم العالي في حين أن وزراء التعليم العالي السابقين الذين كانت الجامعات مرتبطة بهم لم تقيدهم الأنظمة بمباشرة العمل في شؤون الجامعات، ومع ذلك فإن الدكتور الفيصل استطاع أن يخطو بالجامعة خطوات إدارية تتناسب مع الفترة التي تحكمها الأنظمة واللوائح، وقد أنشئت مراكز للأبحاث والاستشارات وانتعشت الدراسات العليا وانتشر أعضاء هيئة التدريس مستشارين في الوزارات الحكومية ومنشآت القطاع الخاص أملاً في تحسين مستوى دخولهم.
أظن أن الجامعة بعد هذه المسيرة في حاجة إلى وقفة للتأمل ومحاسبة النفس ومعرفة الجوانب التي نجحت فيها والأخرى التي أخفقت فيها، وأسباب النجاح ودواعي الإخفاق. لابد من دراسة شاملة تقوم به جهة محايدة غير متأثرة بعوامل الارتباط بالجامعة دراسة تعتمد على الصدق في الرؤية والتحليل يقدم لها المناهج منذ البداية حتى نهاية الخمسين عاما ومستوى أعضاء هيئة التدريس وإنتاجهم العلمي والنتائج السنوية للطلاب لكل قسم وتخصص، ودور الجامعة في المجتمع وأصداء الجامعة في العالم وسمعة مبعوثيها في الخارج والمقارنة بينها وبين الجامعات المحلية والعربية والعالمية المماثلة وخاصة الجامعات التي نشأت في الفترة نفسها مثل جامعة أسيوط التي كان من أوائل رؤسائها هو الأستاذ الدكتور سليمان حزين عليه رحمة الله فهل لنا أن نتعشم في قيام الجامعة بهذه المهمة الصعبة والصحية في الوقت نفسه؟ لنضع استراتيجية جديدة لخدمة المجتمع والرفع من مستوى البحث العلمي وما ستكون عليه الجامعة خلال خمسين عاما قادمة.
تلك هي بعض الآمال والطموحات الني نضعها بين يدي الأكاديمي الشاب ابن الجامعة الأستاذ الدكتور عبدالله بن عبدالرحمن العثمان الذي جاء تعيينه مديرا للجامعة في أول النصف الثاني من القرن الأول من عمر الجامعة ليضعها على الطريق الأمثل نحو العالمية ففي الجامعة كفاءات وعقول ورجال ولكنهم يحتاجون إلى من يستمع إليهم وينصفهم ويضعهم في المكانة التي تليق بهم وما أحوج كل أولئك إلى من يقول لهم شكرا ماديا ومعنويا. لقد أشرقت أنوار مفرحة إذ أصبحت الجامعة تعرف معنى كراسي البحث العلمية وتستقبل العلماء الحاصلين على جوائز نوبل وتشترك في توأمة رائدة مع جامعات لها سمعتها ودورها القيادي في المشرق والمغرب، لقد بدأت الجامعة مسيرة جديدة تقودها الإدارة الجبارة لرجل يعرف كيف يقود الرجال العارفين ومن سار على الدرب وصل.