Al Jazirah NewsPaper Monday  28/01/2008 G Issue 12905
الأثنين 20 محرم 1429   العدد  12905
مات الشيخ (علي بن مسلم) المستشار الديني وقارئ الدرس العام في جلسات الملك سعود
عبدالرحمن بن سليمان الرويشد

في صورة حسنة من صور إخبات المؤمنين وتواضع الصالحين، لبّت روح الشيخ (علي بن عبدالله بن مسلم) نداء بارئها ليلة الجمعة الماضية، الخامس عشر من محرم 1429هـ بعد عمر طويل ناهز التسعين عاماً، قضاه بعد أن شب عن الطوق في الدرس والتحصيل.. ثم في التدريس والإفادة، وتقديم الأسوة الحسنة في خدمة الأمة والدين والوطن.. غير سئم ولا متبرم ولا متطلع أو متشوِّف لغير رسالته.

وعندما هاتفني الصديق المفجوع ابن عمه الأستاذ (علي بن عبدالرحمن بن مسلم) لينقل لي نبأ وفاة هذا الشيخ الجليل، كان حينها آسفاً مرتبكاً، فبادلته التعزية بكلمات أوهنها هول المفاجأة، بعد أن تغشتني موجة من الحزن العميق، لا اعتراضاً على قضاء الله وقدره، لكنه الإحساس بضرورة البوح على أثر الفقد، فنحن على يقين أننا صائرون إلى ما صار إليه، وتوجه نحوه، وعندها خطرت ببالي ذكريات كثيرة عن الرجل الذي عرفته حق المعرفة منذ زمن طويل، فقد كان أحد أبرز تلاميذ الشيخ (محمد بن إبراهيم) في منتصف الستينات الهجرية من القرن الماضي في وقت لم تنتشر فيه جذوة العلوم، ولم تتكاثر معاهد العلم والدراسة والجامعات في البلاد كما هو حاصل اليوم بحمد الله وتوفيقه.. ثم عرفته بعد ذلك قارئ الدرس العام في ديوان جلالة الملك سعود منذ أن كان ولياً للعهد.

فالشيخ علي من طلبة العلم الشريف، لدى العالم الجليل الشيخ (محمد بن إبراهيم) مفتي الديار السعودية، حيث كان أحد طلابه النابهين في حلقات تعليمه التي كانت أكبر وأوسع حلقات التدريس في مدينة الرياض خاصة، بل في مناطق نجد عامة، فهي المصدر والموقع الأرحب لنشر التعليم الديني في علوم الفقه واللغة والثقافة الإسلامية، في تلك الفترة، وقد ظلت تحتل تلك المكانة لنصف قرن من الزمن.

كانت حلقات الشيخ محمد بن إبراهيم في مسجده في الرياض، إلى جانب حلقات أخيه الشيخ عبداللطيف، رحمهما الله، النبع الفياض، والقبس المضيء لنشر الثقافة الإسلامية في قلب الجزيرة العربية في عهد أجدبت فيه أماكن منابت الثقافة والعلوم الشرعية وعلى أثر تلك الحلقات التي كانا يقيمانها، أسهم روادها من ذلك الجيل بسد احتياجات القضاء والتدريس، وكانت النواة الأولى لما تتمتع به البلاد اليوم من حركة علمية أصيلة في مجالات علوم الشريعة والعلوم المواكبة لها. كان الشيخ علي من الملازمين لتلك الحلقات والمواظبين على حضورها، بل كان ذا حظوة عند شيخه، لما يتمتع به من جدية في الطلب، ومن حسن فهم لما يتلقاه من العلوم، مما لفت نظر شيخه إلى وجوب العناية به.. فكان ذلك التلميذ من الذين تولوا قيادة الدرس بالجهر بالقراءة للمتون، وسرد الحواشي، ثم القراءة في المطولات بين يدي الشيخ، حيث يتولى الشيخ بسط تلك المتون، والتعليق على الشروح، وهي طريقة تعليمية تقليدية كانت سائدة في مدارس العالم الإسلامي منذ العهود العباسية.. وقد أعيدت تجربتها أيام النهضة العلمية في عهد الدولة السعودية الأولى.. ثم الثانية.

وكان الشيخ (علي بن مسلم) يتفوق على غيره بالحفظ المتقن للمتون وقواعد العلوم الأخرى.. حسن الأداء رخيم الصوت يتولى سرد مطولات الكتب، كما كان حسن صياغة الاستفسارات، والتساؤل عما يعد غامضاً من الشروحات، مما جعل زملاءه من بقية الطلبة يعولون على فهمه، ويعتمدون على ما يخلص إليه من مشاركات في البحث أثناء الدرس العام.ومما زادهم في التعلق - به رحمه الله - أن شيخه كان كثير الثناء عليه أمامهم، لأنه يواظب بجدية على حضور الدرس، ويفضل على غيره عندما يتولى القراءة سرداً، حيث يلتزم بقواعد اللغة العربية فلا يجد اللحن إلى قراءته سبيلاً.. وقد عُرِفَ عن شيخه أنه لا يرتاح لمن يقرأ في مطولات الكتب بين يديه دون أن يحافظ في النطق على قواعد اللغة العربية، حتى لو كان من المجيدين في التحصيل.. وكثيراً ما كان يوقف القارئ إذا تعددت أخطاؤه اللغوية، وكثر لحنه، بل كان ينفعل، ويطلب من القارئ التوقف، ومراجعة ما سوف يقرأ قبل حضوره إليه. وبجانب ذلك كله تمتع الشيخ (محمد بن إبراهيم) بقدرة فائقة على التمييز بين فوارق التحصيل العلمي لتلامذته، وأظن أن طريقته تلك استفادها من أشياخه.. فعلى الرغم من أنه لا يعقد نظام الامتحان الجماعي للحلقات، لكثرة الطلاب، إلا أنه كان على وعي تام وعلم أكيد بمستوى المجموعات التي تدرس عليه، لذا فإنه عندما يطمئن إلى أن أحد التلاميذ أصبح مؤهلاً للقضاء والتدريس، يبلغه شخصياً أن يعد نفسه للالتحاق بعمل القضاء والتدريس.

وقد اختار (علي بن مسلم) في يوم من الأيام، ليتولى القضاء في إحدى محاكم المملكة العربية السعودية، إلا أن هذا التلميذ المهذب طلب من شيخه بلطف ألا يحرمه من مواصلة الدراسة في حلقاته، لأنه يشعر في قرارة نفسه أنه في حاجة إلى بذل المزيد من الجهد والاستزادة من العلم!!

ويشاء الله أن يطلب ولي العهد في الثلث الأخير من الستينات الهجرية من الشيخ (محمد بن إبراهيم) أن يختار له من طلبته مَنْ يثق به وبتحصيله العلمي، وأن يكون حسن الصوت، ولديه القدرة على اختيار الكتب الدينية والاجتماعية والتاريخية، ليتولى أمر سرد حصة من الدرس في مجلسه العام، ولم يتردد الشيخ أن اختار تلميذه (علي بن مسلم) ليقوم بتلك المهمة، وهو تقيلد قديم في البلاط السعودي، أحياه الملك عبدالعزيز بإقامة درس يحضره في مجلسه العام.

ولو تتبعنا هذا الأمر في التاريخ لوجدناه تقليداً ينتمي للعهود التاريخية العباسية أيام المأمون.. عندها صدر الأمر بنقل خدمات المذكور إلى الديوان الملكي، ليكون ضمن حاشية ولي العهد، المرافقين له حضراً وسفراً، لأداء تلك المهمة المحددة، وعند سماع أول قراءة للمذكور له، أبلغه شفوياً أنه يرغب في ملازمته له.. وتمت تلك الملازمة، حتى بعد أن أصبح ولي العهد ملكاً.وظل الشيخ على صلة بشيخه وببقية زملائه في سلك التعليم، بل كان شيخه يسند إليه بعض المهمات المتعلقة بشؤون العلم والطلاب.وأتذكر أنه عندما تقرر إيقاف الحلقات، وانتقال مسؤولية التدريس إلى المعهد العلمي، الذي أسسه الملك عبدالعزيز، ووكل إشرافه إلى الشيخ (محمد بن إبراهيم) وصدر أمرٌ سامٍ بتعيينه مفتياً عاماً للمملكة العربية السعودية، ومشرفاً على التعليم، ورئيساً للمعاهد العلمية، أتذكر أنه أسند إلى ثلاثة من أكثر تلامذته نشاطاً وهم: (علي بن مسلم) و(ضحيان بن عبدالعزيز) و(عبدالرحمن بن شعيل) وكل إليهم مهمة اختبار مجموعات من الطلبة الشباب القادرين على مواصلة التعليم النظامي، وتوجيه بعض الأسئلة إليهم، وتعيين أسمائهم بعد مقابلتهم، كي يدفع بهم إلى السنوات الأولى بالمعهد العلمي الذي افتتح في ميدان دخنة بالرياض، عام 1370هـ - 1950م.

ظل الشيخ المرحوم - إن شاء الله - (علي بن مسلم) في عمله بالديوان الملكي، إلى جانب الملك سعود، حتى توفي الملك، ومن ثم أُحيلت خدماته إلى وزارة المعارف، ليصبح عضواً عاملاً في الإشراف الديني على مقررات الشؤون الدينية الدراسية، ومساعداً لرئيس المشرفين، فكان خير مَنْ أُسندت إليه تلك المهمة، وظل طيلة عمله مشاركاً في تهذيب المناهج الدينية، وإصلاحها، والإشراف على طباعتها، ووضع أسئلة الامتحانات فيها، ضمن مجموعة من المشرفين تحت رئاسة الشيخ (عبدالله بن إبراهيم بن خزيم) - رحمه الله - الذي كان يطلق على وظيفته ومكان عمله (رئيس التفتيش الديني بوزارة المعارف).

زاملت الشيخ علي - رحمه الله - في مرحلتين من حياته: إحداهما عندما كان أحد أبرز طلبة العلم، في حلقة الشيخ (محمد بن إبراهيم) وحلقة الشيخ (عبداللطيف بن إبراهيم)، وكنت على صلة به وبمجموعة من إخوانه، وأبناء عمومته المشاركين في تلك الحلقات الدراسية، وإن كان الشيخ علي يتميز بأنه في مقدمة الصفوف، أما أنا فكنت معدوداً حينها في صغار الطلبة.

أما الثانية، فقد تمثلت في العمل الذي جمع بيننا في وزارة المعارف، في رحابها الواسع حين كان الشيخ علي أحد ركائز الشؤون الدينية فيها، وكنت مديراً لإدارة الكتب والمقررات المدرسية في الوزارة.. فعرفت فيه التميز بالعلم والحلم والتقوى والحيوية، والتواضع مما يجعلك تطمئن إليه وتثق فيه وتحبه من الوهلة الأولى، كان بعيداً عن التباهي، كما كان أبعد ما يكون عن التملق وغيره من الصفات الذميمة، شديد المحافظة والتقيد بالأوامر الدينية.

وأخيراً جاء الأجل بعد حياة حافلة بالبذل والعطاء، فغادر الشيخ علي هذه الدار إلى دار أرجو أن تكون خيراً له من داره، بعد أن أدى رسالة سامية، حاولت أن أُشير إليها في ثنايا هذه الكلمات المقتضبة، مبدياً شيئاً من ملامحها، ومن وقع سيرته وتواضعه الجم، وحسن معشره، وسلامة طويته. ومع هذا فلا نملك أمام فاجعة فقده إلا أن ندعو الله له بالرحمة والمغفرة، وأن يتقبله في زمرة الشهداء والصالحين، وأن يلهم آله وأبناءه البررة وذويه وابن عمه الأديب الصديق (علي بن عبدالرحمن بن مسلم) الصبر والسلوان.. و{إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}




 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد