Al Jazirah NewsPaper Monday  28/01/2008 G Issue 12905
الأثنين 20 محرم 1429   العدد  12905

حديث عن حديث(2)
د. عبد الله الصالح العثيمين

 

كان آخر ما أوردته في الحلقة السابقة أبيات من قصيدة عنوانها:

تحية من أصالة نجد خاتمتها:

وجئت ألثم من عمَّان بسمها

إذ شاقني من رؤاها ثوبها القشب

تلالها السبعة استولت على خلدي

فراح يتلو لساني بعض ما يجب

وبعد إيراد تلك الأبيات قلت: كنت في العاشرة من العمر عندما سمعت من الذين كانوا أكبر مني سناً، وأعرف بما كان يجري، أن الداعي دعا إلى المسارعة بالتوجه إلى فلسطين لمقاتلة اليهود، الذين احتلُّوا أجزاء من تلك الأرض المباركة، واندفعوا ليحتلُّوا بقيتها. وحدث ما حدث مما هو معلوم من نكبة فادحة نتج عنها قيام دولة إسرائيل الصهيونية العنصرية؛ مدعومة قبل قيامها وبعدد من المتصهينين في أوروبا وأمريكا.

وفي عام 1374هـ - 1954م - وأنا في السنة الثانية من المرحلة المتوسطة من الدراسة - بدأت محاولاتي الشعرية، أو تجاربي النظمية - متزامنة مع بدء اهتمامي بقضايا الأمة العربية الإسلامية. وما كتبته في هذا المجال - أياً كانت تسميته - قصد به التعبير عما يختلج في صدري. وفي ذلك الوقت كانت المشاعر مشاعر ألم لما نُكِبَ به الشعب الفلسطيني من كوارث أخطرها إقامة الكيان الصهيوني العنصري على أرضه المباركة، واضطرار الكثيرين من أفراده نتيجة المجازر التي ارتكبتها عصابات الصهاينة ضد إخوانهم وأخواتهم - إلى النزوح من أرضهم واللجوء إلى بلدان عربية مجاورة حيث بقوا يعيشون في مخيمات كان البؤس - وما زال أبرز ملامحها.

وفي أجواء ذلك الألم المسيطر على النفوس هبَّت نسمة أمل مبعثها انطلاقة الثورة الجزائرية المجيدة ضد فرنسا المحتلة للجزائر. وبدا شعور بالاطمئنان والثقة بأن أمتنا ما زالت حيَّة. وكان مفهوم الحرية في تلك الأيام التحرُّر من الاحتلال الاستعمار. وهذا - باتفاق العقلاء - هو المفهوم الصحيح. ولم يكن يخطر ببال أحد من أبناء الجيل الذي أنتمي إليه أنه سيأتي يوم يتغيَّر فيه ذلك المفهوم ليصبح عند البعض الآن إغراء المستعمر ليحتلَّ الأوطان، وتعاون البعض الآخر معه لتنفيذ احتلاله وترسيخه.

ولقد تلا انطلاق الثورة الجزائرية ما تلاه من بوادر تبعث على التفاؤل وكان من تلك البوادر المشابهة طبيعتها لتلك الثورة أن طلائع المجاهدين الفلسطينيين أخذت طريقها إلى مقاومة المحتل الصهيوني منطلقة بصفة أساسية، من قطاع غزة الذي كان تحت الإدارة المصرية حينذاك. ولم يكن غريباً عليَّ - وقد رأيت تلك البوادر - أن ترد فيما كتبته من قصائد أبيات تعبِّر عن مشاعري المتفائلة.

وكانت مصر في طليعة من ساند ثورة الجزائر الباسلة؛ إضافة إلى مساندتها حركات التحرير ضد الاستعمار في الوطن العربي كله وفي أفريقيا. واجتمع هذا وذاك مع تأميم قيادتها لشركة قناة السويس، التي كان لفرنسا وبريطانيا نصيب الأسد فيها، فأصبحت هاتان الدولتان الاستعماريتان تتطلَّعان إلى فرصة لضربها.

وهكذا التقت مصالحهما وعداءتهما مع مصالح الكيان الصهيوني وعداوته. فحدث العدوان الثلاثي عليها سنة 1956م. وقد فشل ذلك العدوان في تحقيق أهدافه؛ وذلك لأسباب في مقدِّمتها صمود مصر؛ قيادةً وشعباً، ووقوف العرب بعامة معها؛ إضافة إلى وجود دول في طليعتها الاتحاد السوفيتي وأمريكا اقتضت مصالحها حينذاك معارضتها لذلك العدوان. ولم يكن مستغرباً أن تترك تلك الأحداث صداها العميق في النفوس. ولذلك كتبت عدة قصائد؛ مشيراً إلى قائد مصر بالذات بقولي:

كم سجَّل التاريخ عن أمجادها

صوراً يتيه بها الخلود ويطرب

وعلى حماها اليوم يرفع قائد

علم الصمود بهمَّة لا تغلب

جعل الكنانة قلعة أركانها

تخشى من الباغي الحقود وترهب

متوثباً كالرعد دوَّى صوته

في وجه أعداء الحمى: لن تقربوا

عزماتنا لن تستكين وشعبنا

جيش على خوض الحروب مدرَّب

إن رمتمُ أن تستبيحوا أرضنا

فالأسْد تثأر للعرين وتغضب

والمارد الجبَّار حطَّم قيده

سيهدُّ أركان العدا ويخرِّب

على أن بين الكُتَّاب العرب المشككين في قدرات أمتهم من دأبوا على ترديد عبارات وأقوال تخدم أعداء هذه الأمة، ولا تتَّفق مع حقيقة ما جرى.

ذلك أنهم يعدُّون العدوان المذكور حرباً بين الصهاينة والعرب؛ متعمدين إغفال ذكر تآمر الدولتين الاستعمارتين، فرنسا وبريطانيا، مع الكيان الصهيوني واشتراكهما في ذلك العدوان على مصر. وكما كان متوقَّعاً زاد فشل العدوان الثلاثي في تحقيق أهدافه مقاومة الشعب الجزائري ضراوةً واستبسالاً. ومن وحي ذلك كتبت قصيدة مطلعها:

قداسة الثأر في الأعماق تلتهب

وصولة الحق يذكي نارها الغضب

وكان للمملكة العربية السعودية، التي أعتزُ بكوني أحد مواطنيها، دور بارز في دعم الثورة الجزائرية المجيدة، مادياً ومعنوياً. ومن صور هذا الدعم أنها بادرت بعد شهرين فقط من انطلاق تلك الثورة؛ أي في الخامس من يناير عام 1955م، إلى أن تجعل منها قضية دولية. فقد قدَّم مندوبها في الأمم المتحدة خطاباً إلى رئيس مجلس الأمن حينذاك، السيد يسلي مونرو، يطلب منه توزيعه على أعضاء ذلك المجلس ليكون وثيقة من وثائقه، ففعل ذلك.

ومن تلك الصور إقامة مهرجانات في المملكة يُحثُّ فيها على التبرُّع للشعب الجزائري المجاهد. وكنت ممن كان لهم شرف إلقاء شعر في تلك المناسبة.

وكان قيام الوحدة بين سورية ومصر، عام 1958م، مما زاد توهج آمال الجيل الذي أنتمي إليه في استعادة أمتنا مكانتها اللائقة بها. وعمَّت الفرحة بذلك الكثيرين. ولم يمرُّ عام على قيام تلك الوحدة إلا وقد بلغ التفاؤل في نفسي قمَّته. فكتبت قصيدة عنوانها: (عيد الوحدة) منها:

يا ربوع الخلد حيِّي أمة

شغفت بالوحدة الكبرى هياما

أمة زفَّت إلى هام العلا

وحدة رفَّت على القطرين عاما

يخفق النصر على آفاقها

باسم الثغر طروباً مستهاما

نفحات النيل هزَّت بَرَدَى

فمضى يلقى على النيل الخزامى

والتقى الإخوان من بعد النَّوى

ودموع البشر تنهلُّ انسجاما

فغدا الشعبان في قطريهما

دولة تأبى مدى العمر انقساما

غير أن تلك الوحدة انتهت بعد ثلاث سنوات فقط من قيامها كما هو معلوم.

وكان لذلك ما له من أثر سلبي على معنويات من تملَّك نفوسهم أمل الوحدة العربية، الذي رأوه في مقدِّمة أسباب قوة أمتهم وصمودها أمام أعدائها.

ولقد رأى الجميع كيف أدَّى تشرذم الأمة العربية، الذي مهَّد لحدوثه الشعور الإقليمي المميت، وشجَّعه أعداؤها، حتى وصلت أوضاعها إلى ما وصلت إليه الآن بحيث بات الكل يعضون على أصابع الندم بعد أن وقفوا يتفرَّجون على الثور الأبيض يؤكل منتظرين أن يحلَّ بهم ما حلَّ به.

وفي العام الذي حدث فيه الانفصال فأوجع المشاعر، كانت سيطرة غوغاء الشيوعيين في العراق ما تزال على أشدِّها. وكان مما زاد الوضع مرارةً أن يُرى مِن كبار الشعراء مَنْ كان يحث قادة ذلك البلد على البطش وشدِّ الحبال على رقاب المعارضين. وفي العام التالي حدث تحوُّل نوعاً ما في سياسة حاكم العراق.

وربما كان من أسباب ذلك التحوُّل انفصال الوحدة بين سورية ومصر، الذي جعل ذلك الحاكم أكثر اطمئناناً على وضعه. وكان أن عُقِدَ مؤتمر لوزراء خارجية العرب في بغداد مظهره التقارب بين حكوماتهم. لكني عبَّرت عن موقفي من ذلك المؤتمر بقصيدة عنوانها: (دعاة الصمت) مطلعها:

ماذا أرى؟ أعن النضال تحوَّلوا؟

أم آثروا استدراجم فتمهلوا؟

ماذا يراد من التقارب؟ عودة

للخلف؟ أم سرٌّ خفيٌّ يعمل؟

أما خاتمتها فكانت:

بغداد والوزراء فيك تجمعوا

ليدونوا تزويرهم ويسجلوا

قولي لمن حلُّوك لا تتشبثوا

قسماً - مصائب أمتي - أن تفشلوا

إن السكوت عن الذيول خيانة

فعلى دعاة الصمت أن يترحَّلوا

وإلى اللقاء في الحلقة القادمة إن شاء الله.

لإبداء الرأي حول هذا المقال أرسل رسالة قصيرة SMS  تبدأ برقم الكاتب 5896 ثم إلى الكود 82244

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد