وما الموتُ إلا سارق دقَّ شخصه)
يلاقي الأنفس ولا يلحق بها، وإن فرَّت أو كمنت في بروج مشيدة، وهو اليقين الذي لا يخلف الميعاد، ومع ذلك يظل مخيفاً ومحزناً، وما كان اليقين أن يكون مروِّعاً بهذا القدر، ولكنها النفوس جبلت على الإلفِ وخوف المفارقة، وما من راحل إلا وله مَن يتفجع عليه، أو يؤبنه، وأقدار الراحلين بما تركوا من خير وبما قدموا من عمل، وبما أخلوا من ثغور، وبما هم عليه من خلال وخِصَال، وكلُّ بحسبه، فالعلماء والأثرياء والمسؤولون لا يقوَّمون بما أورثوا من جنات وعيون ومقام كريم، وإنما يحمدون بالعلم الذي ينتفع به، والصدقة الجارية والعقب الصالح الذي يسد المكان الذي سدوا، والسعيد من استعمله الله في طاعته وحبب إليه السعي من حاجات الناس، وتلك حظوظ يهبها الله لمن يشاء من عباده.
وكل راحل ترفع أقلامه وتجف صحفه {وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى}، ولكن هذه الصحف بما هي عليه وبما فيها تنشر على ألسنة الناس لتكون عمراً ثانياً في حياته وبعد مماته؛ لتملأ الفراغ الذي تركه ببدنه. والذين يصنعون لأنفسهم الذكر الحسن بالعمل الصالح أو بالعلم النافع أو بالسعي في حاجات الناس يبادرها الخلف حين يوارى الميت في قبره. وما من عاقل إلا ويود أن يكون حاضراً بأبهى صوره، يشرف من يخلفه من أهل وعشيرة، وحين لا يسع مَن حوله بماله فإنه قد يسعهم بأخلاقه أو بجهده أو بفكره؛ فالناصح والوجه الطلق والمعلم والساعي على الأرملة واليتيم كأصحاب الدثور الذين يذهبون بالأجور بما ينفقونه في سبيل الله سواء بسواء، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اتقوا النار ولو بشق تمرة)، والكلمة الطيبة صدقة، وكم من راحل خلت منه مواقع مهمة لا يدرك الناس أهميتها حتى تنكشف بموته، وكم من محسن لا يعرفه إلا الخاصة حتى إذا فارق الحياة أصبح كالعبق؛ فالساعون في الشأن العام كالمنفقين في سبيل الله؛ حيث لا تدري شمال أحدهم ما تنفق يمينه.
وفقيدنا العالم والمعلم والساعي في دروب الخير كلها الشيخ الدكتور (صالح بن عبدالعزيز المنصور) من هذا الصنف، يمشي على الأرض هوناً بتواضعه الجمّ وسماحته الفذة وتسامحه الموزون وتودده.. عرفته دارساً يوم كنا في جامعة الأزهر بالقاهرة، وعرفته مسؤولاً يوم كنتُ محاضراً ثم أستاذاً في فرع جامعة الإمام بالقصيم، وعرفته زميلاً في ذات الفرع حين ترك العمادة وإدارة الفرع، وبعد أن تحول الفرعان إلى (جامعة القصيم) وأصبح أستاذاً غير متفرغ، وعرفته محاضراً في بعض المؤسسات وخطيب جمعة يتخول الناس بالموعظة، وعضواً في عدد من الجمعيات الخيرية وتحفيظ القرآن، وما رأيته قبل هذا وبعده وأثناء ذلك إلا ذاهباً في مهمة أو عائداً من أخرى يتأبط كتبه، يحاضر ويكتب ويؤلف ويحاور، وكل عالم وصل حبا له بشيخ الإسلام (ابن تيمية) يكون له حضور متميز في القول والفعل.
فهو مدرسة في مختلف المعارف، وهو ناشِطٌ لا تأخذه في الله لومة لائم، وهو حريص على جمع الكلمة ولزوم الجماعة واحترام العلماء وهيبة السلطان. وحين اجتاحت المشاهد موجة التشدد والعنف كان الساعي لتأليف القلوب وتهدئة الأوضاع وتحذير الشباب من دعاة السوء. ولقد لقي في ذلك نصباً، ولكنه الصابر المحتسب.
وما نوده من أبنائه وهم على خير كثير أن يتعهدوا ما ترك من كتب ورسائل وخطب وكتب مخطوطة وبحوث وردود بالتجميع والتنقيح والطبع؛ فالفقيد ترك جملة من الأعمال وأطرافاً من المشاريع، وهي أمانة في أعناق أبنائه الذين أثق بأنهم أشد حرصاً على لملمة تراثه وإخراجه إلى الناس.