كان ذلك في السبعينيات الميلادية حينما كنت أنا وصديق راحل - يرحمه الله- نتسوق في إحدى مدائن الضباب وفي أحد أسواقها المركزية الهائلة. وقد كان الصديق - يرحمه الله- يعالج آنذاك في أحد مستشفيات المدينة من تقرّح حاد في المعدة، هذا الداء الذي يحتاج من يعانيه إلى شرب المزيد من الحليب لتغليف جدار المعدة. وبالطبع لأننا - كعرب- مخلوقات (لاحمة) و (لابنة) أي أننا أكثر الشعوب استهلاكاً ل(اللحوم) و(الألبان) فقد كنا (نقُشّ) كل ما يعترض طريقنا من الرفوف التي تحمل هذه الأصناف. وقد لاحظت أن ثمة عجوزا (حيزبون) شمطاء درداء حدباء ترقبنا من فوق إطار نظارتها السميكة، وكأنها إحدى بقايا (الفستابو) أو الشرطة السرية للرايخ الثالث، فنبهت صديقي إلى هذه (البلوى) التي تراقبنا و(تعد خطانا) وهي تحمل ورقة تحدق فيها حيناً فتتناول علبة جبن واحدة أو علبة (تونة) واحدة أو علبة تصلح غذاء للكلاب لأنها ولا شك لديها في البيت كلب عزيز!! فقال لي صديقي (وانت وش عليك منها.. خلها تولي) ولكنها بالطبع لم (تولي) بل أخذت تولول وتصرخ (راطنة) بالسّباب لمجرد أن صاحبي تناول زجاجة الحليب المفضل لديه ( لزوم القرحة) ثم انقضّت عليه كالسعلاة وهجمت عليه ك(غولدمائير) رئيسة وزراء إسرائيل في حرب الأيام الستة، ولأننا نحن جيل السبعينيات نعاني من عقده (العجز والشمطاوات) إثر هزيمة (غولد مائير) لنا في حرب الأيام الستة، فقد أطبقت الحيزبون إياها على زجاجة الحليب التي تناولها صاحبي بكلتا يديها وتشبثت فيها كما تشبثت (غولدا) بالضفة الغربية والجولان وسيناء أيضاً!
أو كأن زجاجة الحليب من حليب أمها أو حليبها لا فرق!! وأعادتها إلى الرف وهي تهرف وتخرف بما لا نعرفه من لغة، الأمر الذي استدعى مدير السوق الذي كان رجلاً محترماً أكثر منها ومن أسلافها فتدخل لحل سبب الشجار، وأفهمنا أن هذه الحيزبون الشمطاء لديها (غيره) على مواطنيها (المستهلكين) الذين قرروا مقاطعة هذا النوع - بالذات - من الحليب لأنه قد ارتفع سعره قليلاً. لذلك لا تريد أن يخترق أحد هذه المقاطعة، وها هي تحمل قائمة معها بكل الأصناف التي قرر المستهلكون مقاطعتها وهي ملتزمة بذلك للعظم!!
قلنا (دقّ الله عظمها) وعظام أسلافها أيضاً، ثم ما شأننا نحن بمقاطعاتها، (قطع الله جنسها، ولسانها أيضاً!).
**
ولكنها رغم شتائمنا انتصرت علينا، وأعادت الزجاجة إلى الرف وهي ترفع يدها النحيلة اليابسة بعلامة النصر (هاي هتلر) ثم ولت تدب كالدجاجة المنتوفة العرجاء.
**
هذه الحكاية تذكرتها اليوم ونحن نتلقى على جوالاتنا الشخصية (مسجات) تدعو إلى مقاطعة (بعض) أنواع المواد الغذائية التي رفعها (بعض) تجارنا الأجلاء!! فهل نكون والحال هذه منتصرين كتلك الحيزبون على الأسعار، أم منهزمون كما انهزمنا أمام الحيزبون الأخرى (غولدمائير) .. هذا هو السؤال؟!