عندما نتكلم عن النفط نتذكر الاحتراق لأن هذه المادة تتصف بأنها ملتهبة وسريعة الاشتعال.. إلا أنه على ما يبدو ليس المادة بطبيعتها الحصية هي التي سريعة الالتهاب فقط، وإنما تمتلك العديد من الخصائص الاشتعالية الأخرى، والتي من أبرزها عملية تسعيرها، تلك العملية التي تتصف بأنها ليست قادرة على إشعال مصباح سيارة فقط، ولكنها قادرة على إشعال حرب ليس بين دولتين، وإنما ربما حرب عالمية جديدة.
كيف يتحدد سعر النفط؟
أي سلعة يفترض أن يحدد سعرها حسب قوى العرض والطلب، ولكن في الغالب تكون اليد الطولى للمنتج أو البائع الذي قد يحتكر السلعة ويفرض سعراً مرتفعاً أو ربما يصل إلى مرحلة المبالغة التي تخرج عن نطاق الموضوعية. إلا أن النفط يخرج عن هذا النطاق الكلاسيكي لقوى العرض والطلب، لأن طبيعة المنتج تلعب دوراً كبيراً في تحديد سياسة تسعير النفط، حيث إن النفط يعتبر أحد الموارد القابلة للنضوب، مما يعني عدم صلاحية المبادئ الكلاسيكية لتسعيره.. إذ إن تحديد السعر بالمنفعة الحدية يؤدي إلى تزايد معدلات النضوب، وبالتالي انخفاض نصيب الأجيال القادمة من الموارد النفطية، لذلك، فإن استهلاك النفط يتضمن نفقات الفرصة البديلة المتمثلة في قيمة ما يمكن الحصول عليه في المستقبل، وبالتشابه مع السلع والخدمات الأخرى يلعب كل من العرض والطلب دوراً رئيسياً في تحديد سعر النفط، إلا أنها تختلف عنها في زيادة الدور الذي تلعبه طبيعة السوق والعوامل غير الاقتصادية، وبالتحديد العوامل الإستراتيجية والسياسية في تحديد ذلك السعر.
ومنذ البداية ومنذ معرفة أهمية النفط، فقد لعبت عدد من الشركات النفطية (السبعة الكبار) دوراً احتكارياً للسوق رغم أن هذه الشركات كانت تنتمي أو ربما تعتبر ممثلة لحكومات دول مستهلكة وليست منتجة للنفط. وعليه، فقد بدأ سوق النفط كسوق مشترين حتى بداية السبعينات عندما ظهرت لأول مرة أوبك.
تأسيس أوبك:
لقد أسست أوبك كمنظمة دولية والتي ربما تعتبر المنظمة الأهم دولياً على الإطلاق لإدارة العرض والطلب ومن ثم السعر. وقد ضمت في عضويتها المنتجين الرئيسيين للنفط، ولكن رغم ذلك فإنه لا يمكن القول إنه بتأسيس أوبك قد تحول السوق من سوق مشترين إلى سوق منتجين، وإنما قد تحول إلى سوق تنسيقي بين المنتجين والمشترين.. ولكن مع ذلك، فقد ظلت أوبك ذاتها محتكرة داخلياً من قبل المستهلكين للنفط. وظل ذلك ربما حتى عام 2000 عندما بدأت أوبك تستعيد نفوذها في مواجهة الدول المستهلكة من خلال الموازنة بين المشترين والمنتجين بعد حوالي 30 عاماً من ضعف النفوذ نظراً لانتهاجها منهج سقوف الإنتاج والسعي للتأثير في السعر العالمي بما هو في صالح المستهلكين ولو على حساب المنتجين.
بالتحديد، لقد خلقت أوبك بعد مرحلة طويلة من سيطرة واحتكار المستهلكين للنفط، بحيث إنها سعت لتنظيم أو تحديد سعر تنسيقي للنفط.. وللحياد لا بد من ذكر أن أساس تأسيس أوبك هو إدارة الأسعار العالمية للنفط.. قد يسأل سائل: هل يوجد أسعار محلية للنفط؟ إن الإجابة بالنفي لا توجد أسعار محلية يعتد بها سوى بفوارق بين أنواع النفط من دولة لأخرى حسب وزن الكبريت أو الشوائب.. فالنفط هو السلعة الوحيدة التي لا يوجد لها سعر محلي يعتد به كالسلع الأخرى، وليس لأي دولة منتجة القدرة على تحديد سعر اختياري خاص بها.. بل إنه سعر عالمي رغم أنه يدار من خلال سوق عالمي، إلا أنه في ذات الوقت تلعب أوبك دور اليد الطولى في إدارة العرض أو الناتج العالمي، ومن ثم فإنها تمتلك أساس القوة في إدارة السعر العالمي.
هل أوبك لإدارة السوق أم السعر؟
بمعنى أن هناك ما يمكن تسميته بالسعر التنظيمي أو التنسيقي (جوازاً)، ولكن من يمتلك القوة في تحديد هذا السعر التنسيقي؟ إن سعر النفط يتحدد في الوضع الحالي حسب توليفة تعبر عن وجهات نظر الدول المنتجة والمستهلكة والشركات الوسيطة. البعض يقول إن قراءة الوضع السياسي العالمي تبرر تدخل الدول المستهلكة (بطبيعة قوتها السياسية والاقتصادية) في تحديد السعر العالمي.. إلا أنه لا يوجد ما يبرر تدخل شركات وسيطة في ذلك؟ إن الواقع يشير إلى أن هذه الشركات بتداخلاتها مع الدول المستهلكة والمنتجة إنما تلعب الدور الأكبر والأهم في تسعير النفط من خلال تأثيراتها على عمليات البحث والاستكشاف والاستخراج، ومن ثم تأثيرها على العرض العالمي.. إن تسعير النفط يعتبر عملية معقدة للغاية.. فأنت ترى هناك روابط بين الحكومات المستهلكة والشركات النفطية، وترى روابط بين تقديرات هذه الشركات للاحتياطيات المتبقية والاحتياطيات الجديدة المستكشفة وبين الأسعار الحالية.. إن الأمر ليس عادياً ولا يمكن النظر إليه بالعين المجردة مباشرة، وإنما هو أمر بات يرتبط بالأمن الاستراتيجي لهذه الدول.. لدرجة أن مخزون النفط في الولايات المتحدة يطلق عليه مصطلح المخزون الاستراتيجي، أي مخزون أهم سلعة في الدولة.
الغرابة في تسعير النفط
تسير الأسعار العالمية للنفط على منوال غريب وغير متوقع دائماً، فأنت لا تستطيع أن تعرف أو تحدد كم سيكون سعر النفط بعد شهر أو حتى أسبوع، فإن حدث إعصار في دولة منتجة أو مستهلكة ارتفع السعر.. وإن حدثت عملية إرهابية في دولة منتجة ارتفع السعر العالمي لأعلى، وإن زاد الصقيع في دولة مستهلكة ربما اشتعل السعر ليلهب هذا البرد القارس.. إن سعر النفط يعتبر أقوى سعر في استجابته لأي محفز أو مثبط.. أي سلعة قد تستجيب وربما لا تستجيب لأي تغير اقتصادي أو سياسي أو غيره.. إلا النفط فإن استجابته حاضرة وقوية دائماً.. إلا أن هذه الاستجابة دائماً ما تكون غير منفردة وإنما تلحق بها استجابات متتالية وفورية في اقتصاديات الدول سواء المستهلكة أو حتى المنتجة.
لا مجال للعودة في أسعار النفط
من الأمور الفريدة التي يتصف بها النفط أيضاً أن سعره لا يعود غالباً إلى مستويات قديمة لأعوام سابقة، ما إن يصعد في عام معين فإنه يبني قاعدة سعرية جديدة في الغالب تمنعه من العودة لمستويات أعوام مضت، خلافاً عن كافة السلع الأخرى.. فحتى الأسهم قادرة على العودة لأسعار ربما سنوات عديدة مضت. بالتحديد، فإن أسعار النفط دائماً تتجه لأعلى ولا مجال لانحدارها على المستوى السنوي، فقط قد يحدث انحدار قصير المدى داخل نطاق معين.. إن الشكل المرفق يوضح أن الأسعار العالمية للنفط تسير في اتجاه صاعد على المدى الطويل.. وذلك رغم أنها سارت في اتجاه أفقي تقريباً على مدى الفترة الممتدة من بداية الثمانينات وحتى عام 2004 تقريباً.. إن فترة المسار الأفقي يحلو للبعض تسميتها فترة ضعف أوبك وانصياعها لفكرة سقوف الإنتاج التي حفظت السعر ما بين 25 إلى 35 دولاراً لفترة طويلة تناهز 25 عاماً.. فقد تحركت أسعار النفط على منوال تصاعدي أشبه بتحرك سوق الأسهم السعودية خلال عام 2005، حتى وصل متوسط سعر النفط في عام 2000 إلى 30 دولاراً واستمر على نفس مستواه حتى عام 2004، ثم صعد في عام 2005 إلى 56 دولارا في المتوسط ذلك المستوى الذي بدأ منه رحلته المكوكية إلى مستوى 66 دولاراً كمتوسط لعام 2006، حتى حلق إلى ما يناهز الـ100 دولار في نوفمبر عام 2007.
تأثيرات ارتفاع الأسعار:
عندما يرتفع سعر النفط من المنطقي أن نشهد تغيرات كبيرة في اقتصاديات الدول المستهلكة، وتكون هذه التغيرات في الغالب بالسلب نتيجة ارتفاع سعر الخام الرئيسي الذي تقوم عليه هذه الاقتصاديات.. إلا أن الأمر المستغرب أن ارتفاع سعر النفط لا يؤثر فقط على اقتصاديات الدول المستهلكة ولكن يؤثر أيضاً على اقتصاديات الدول المنتجة.. إن غالبية الدول المنتجة إنما تنتج النسبة الكبرى من نفطها وتصدره في شكله الخام، ونسبة متدنية (تقدر في المتوسط بنحو 9% في دول الخليج) هي التي يمكن تصديرها في الشكل المكرر أو المصنع. وتقوم هذه الدول في مقابل اعتمادها على تصدير النفط الخام تقوم باستيراد المنتجات الوسيطة لقطاعاتها الإنتاجية واستيراد المنتجات الاستهلاكية لمواطنيها.. وهنا يثار الجدل الكبير حول ما هو تأثير ارتفاع أسعار النفط على الدول المنتجة ومن الواضح أن لارتفاع أسعار النفط تأثيرين:
الأول: تأثير إيجابي نتيجة زيادة حجم الإيرادات النفطية وبالتالي ضخ المزيد من العملات الأجنبية لتعزيز عمليات التنمية الاقتصادية بها.
الثاني: تأثير سلبي نتيجة ارتفاع فاتورة الواردات الوسيطة والاستهلاكية من الدول المستهلكة للنفط.
إن السؤال: أيهما أكثر تأثيراً على اقتصاديات الدول المنتجة؟
مطلوب فرض ضريبة
إن سعر النفط ينبغي أن تضاف إليه ضريبة على المشتري، هذه الضريبة تمثل ما يلي:
1- تعويض للأجيال المستقبلية عن ضياع مورد اقتصادي ثري.
2- تعويض للأجيال الحالية عن تحمل أعباء التلوث البيئي وسوء المناخ نتيجة عمليات البحث والتنقيب والاستخراج والتكرير.
ماذا لو كانت الدول الغربية هي المنتجة للنفط؟
إن سعر النفط إذا لم يتضمن قيمة إضافية عادلة للتعويض عن هذين الأمرين فإنه غير عادل.. إن التعويل على الأثر السلبي لارتفاع أسعار النفط إنما يدخل في باب فشل هذه الدول المنتجة في التنويع الاقتصادي والتفوق ارتكازاً على إيرادات نفطية مرتفعة لأكثر من 40 عاملا حتى الآن.. إننا نتساءل ماذا لو انعكس الأمر، وكانت الدول الغربية هي المسيطرة على إنتاج النفط والدول العربية والخليجية مستهلكاً رئيسياً له.. هل كان من المتوقع أن يكون هناك تنسيق سعري؟ هل كنا سنشهد اهتماماً بالشرق الأوسط؟ هل كانوا يمكن أن يقدموا لنا وقود حياتنا؟ بالطبع إنها أمور غير متوقعة.
د. حسن الشقطي
محلل اقتصادي
hasaan14369@hotmail.com