عندما أبلغني الزميل والصديق الأستاذ (عبدالوهاب القحطاني)، مساعد مدير عام مؤسسة الجزيرة الصحافية للتسويق، بوفاة الصديق والأخ والأب، الشيخ (صالح بن علي العجروش) رحمه الله، ظهيرة يوم الأحد الماضي، صدمني النبأ المفاجئ، وعمّني الحزن الذي يصدق فيه قول الشاعر: |
إن حزناً.. في ساعة الموت |
لأضعاف سرور.. في حالة الميلاد |
* كان (أبو طارق)، يعزيني ويعزي نفسه، وهو ينقل إليّ هذا النبأ المفجع. كنت في السيارة إلى خارج الطائف، فوجدتني أعود أدراجي إلى الدار، وأنا أردد عبارات الترحم عليه، وأستعرض من الذاكرة شريط تلك الأيام الخوالي، التي جمعتني به في العمل، ثم في الصحبة والمحبة والمودة، يوم كان لا ينقطع عن الطائف أبداً، ولا ينقطع عن أحد يعرفه فيه. كان محباً لهذا المصيف الجميل، يقضي فيه الصائفة كل عام، منذ أن عرفته قبل تسعة وعشرين عاماً، مثلما كان يفعل قبل ذلك بسنوات طويلة، حتى أجبرته ظروفه الصحية على البقاء في الرياض في الأعوام الثلاثة الماضية. |
* كان - رحمه الله - معنا بروحه وقلبه، وكنا معه بحبنا ومودتنا له، حتى وهو خارج الطائف، نتحدث معاً بالهاتف، في مناسبة وبدون مناسبة.. ولكن مثلما قال الشاعر: |
إلى الله أشكو.. لا إلى الناس أنني |
أرى الأرض تبقى.. والأخلاء تذهب |
أخلاي.. لو غير الحِمام أصابكم |
عتبت.. ولكن ما على الموت معتب |
* هاتفته - رحمه الله - بُعيد عيد الأضحى، مهنئاً بالعيد، قلت له على الفور: كل عام وأنت بخير يا أبا خالد.. ها قد سبقتك هذه المرة..! وكان كعادته، سباقاً إلى كل فضل، فهو يفاجئني في كل مناسبة بالاتصال والسؤال عن الأحوال ويقول في مودة: سبقتك يا شاطر..!. رد علي مثلما تعودت منه، في تودد وتواضع: أهلاً يا راعي العسل..! وهي عبارة ظل يناديني بها متلطفاً، كلما سمع صوتي بالهاتف، ليشعرني أنه يعرفني من صوتي، وقد كان يعرف أصواتنا، أولئك الذين بقينا من زملائه وأصدقائه على اتصال ووصال معه، طيلة سنوات تركه العمل والتقاعد. |
* ماذا أقول في هذا الرجل العملاق في كل شيء. عملاق في شيمه وفي أخلاقه. عملاق في تواضعه وأدبه. عملاق في صفائه ووفائه وعدله، عملاق في صدقه وشفافيته. عملاق في سجاياه الحميدة، التي لا تعد ولا تحصى. يكفي أنه (صالح العجروش)، الذي لم يزامله في العمل كبير أو صغير، إلا ويدين له بالفضل، حتى بعد تركه إدارة مؤسسة الجزيرة، ظل يتفقد زملاءه وأبناءه الذين عملوا معه، يسأل عنهم، ويعرض عليهم مساعدته فيما يحتاجون إليه. إنا لله.. وإنا إليه راجعون: |
لكل اجتماع من خليلين فرقة |
وكل الذي.. دون الممات قليل |
وإن افتقادي واحداً بعد واحد |
دليل.. على أن لا يدوم خليل |
* رأيته أول مرة، في شهر ربيع الأول من عام 1401هـ، وكان هو مدير عام المؤسسة. جاء إلى الطائف هو والأستاذ خالد المالك رئيس التحرير، على رأس وفد الجزيرة إلى مؤتمر القمة الإسلامي الثالث، الذي انعقد بالمصيف في تلك الفترة، وكنت حديث عهد بالجزيرة وبمن يرأسها أو يعمل فيها، فقد التحقت بالعمل بها مديراً لمكتب الطائف، في شهر جمادى الآخرة من عام 1400هـ، بعد سنوات مع صحيفة الندوة بلغت اثني عشر عاماً. جاء المدير العام ورئيس التحرير إلى مكتب المؤسسة الجديد، فرأيتهما معاً لأول مرة، وكنت وما زلت، من أشد المعجبين بإدارة المدير العام ورئيس التحرير في تلك الفترة، فقد شعرت وقتها، أنهما يمثلان عقلية واحدة، وتفكيراً موحداً، ويخلقان توازناً فريداً غير مسبوق في المؤسسات الصحافية، فصعدا بالجزيرة إلى القمة، حتى أصبحت هي الأولى بلا منازع. |
* كان - رحمه الله -، يمثل سنداً لي في التوسع في محافظة الطائف، وفي محافظات تربة والخرمة ورنية، وفي منطقة الباحة، وعدة مراكز ومناطق أخرى تصلها الجزيرة من الطائف، حتى ساحل تهامة وبلاد شمران. تسلمت التوزيع اليومي بعدد (50 نسخة) فقط، فصعدت به حتى بلغ (10000 نسخة) في اليوم. لم أقترح فكرة على الشيخ صالح، إلا باركها ودعمها وعزز منها. وإذا حل الصيف، وحل هو بالطائف، يزورنا بالمكتب بشكل شبه يومي، ويبدي من الملاحظات والتوجيهات ما هو ثمين للغاية، بل كان - رحمه الله -، من شدة حبه للطائف، لا يترك وادياً أو متنزهاً إلا زاره ووقف عليه، وسجل ملاحظاته التي يطلب مني تقديمها لمعالي المحافظ، من أجل تحسين مستوى السياحة. كان هذا موقفه ودأبه من الطائف وأهلها، مثله مثل الشيخ محمد بن صالح، والشيخ عبدالله بن عدوان، ومعالي الشيخ حسين عرب - رحمهم الله جميعاً -، والأستاذ سعد بن رويشد - أمد الله في عمره -، وآخرون كثر من محبي الطائف، لا يرضون عنه بديلاً. |
* ذات يوم.. قبل عشرين عاماً على وجه التقريب.. وكان يوم جمعة، جاءني إلى الدار قبل الظهر، سائق الجزيرة الذي يوصلها إلى الباحة وبلجرشي صبيحة كل يوم، وقال: مرور قيا أعادني بالقوة. استشطت غضباً، فهذه أول مرة تُمنع فيها صحيفة من الوصول إلى قرائها حسب علمي، لكني تذكرت مناكفات ومكاتبات جرت بيننا وهذا المركز من قبل، وطلبات وصلت إلى ست نسخ هدايا تسلم للمركز على الطريق العام، تطور الأمر بعدها، فأصبح يُطلب من السائق إيصال الهدايا إلى مقر آخر يبعد ستة أميال عن المركز، وكنت شكوت هذا المركز إلى مدير المرور أكثر من مرة دون جدوى. رفضت هذا الموقف وقتها، وعمدت السائق بالرفض وإيقاف الهدايا. أبلغت الأستاذ محمد الوعيل الذي يقود التحرير أثناء إجازة الأستاذ خالد بما وقع من منع للجزيرة. قال لي: أبلغ الشيخ صالح فهو المشرف العام في هذه الفترة. هاتفته وكان يستعد للخروج إلى صلاة الجمعة. قال لي على الفور: كمية الباحة لا توزعها هذا اليوم. احرقها فوراً، واكتب اعتذاراً ينشر غداً موجهاً لأهالي الباحة بعدم التوزيع، واذكر من منع الجريدة من الوصول إلى هذه المنطقة بالتفصيل، ثم اكتب برقية عاجلاً إلى وزير الداخلية، وصورة منها إلى أمير الباحة، وأخرى إلى وزير الإعلام. فعلت كل ذلك فوراً، وفي ظهر اليوم التالي، كنا أخذنا حقنا كاملاً، وتطور الأمر إلى معاقبة المتسببين، وانتهت المشكلة. |
* ألم أقل لكم: إنها أيام العجروش..! |
* إنها أحلى وأجمل أيام حياتي في الإدارة الصحافية، هي تلك التي قضيتها مع مدير عام مؤسسة صحافية يتميز بحس صحافي رفيع المستوى، وببعد إنساني في ميدان العمل لا يُضاهى، وبفهم عميق للتعامل مع كل من يحيط به، سواء كان في العمل، أو في الحياة العامة، من سعوديين، أو من إخوانهم من غير السعوديين. |
* لم تنقطع صلتي بالعجروش الإنسان المهذب أبداً، حتى بعد تقاعده وتفرغه لحياته الخاصة، كنت ألقاه في داره بالطائف، وفي الرياض إذا كنت فيها، وكان يشرفني في داري المتواضعة بين وقت وآخر. |
* رحم الله أبا خالد.. كان إنساناً نبيلاً إلى أبعد حد، ورجلاً شهماً إلى أقصى مدى. لا أعرف أحداً يذكره بسوء، وكل من أعرف ممن عرفه يذكره بكل خير، لأنه أهل لهذا وأكثر منه. |
* وفي الختام.. يعجز لساني عن ذكر مآثر الشيخ (صالح العجروش) الإنسان، كما يعجز قلمي عن أداء الواجب نحوه ونحو أسرته الكريمة، وكافة أبنائه وإخوته وآله الكرماء: |
إذا كان العزاء.. داءً مقيماً |
ففي حسن العزاء لنا شفاء |
* أحسن الله عزاءهم وعزاءنا في فقيدهم وفقيدنا الشيخ (صالح بن علي العجروش)، الذي نسأل الله له الرحمة والمغفرة وحسن المآب. |
|