Al Jazirah NewsPaper Saturday  24/11/2007 G Issue 12840
الاقتصادية
السبت 14 ذو القعدة 1428   العدد  12840
قمة الأوبك.. الرياض والناس وثقافة السفر!!
د. سعد بن عبد العزيز الراشد

اعتاد المواطن السعودي منذ سنوات بعيدة على السفر داخل حدوده المناطقية أو خارج الحدود للأقطار القريبة والبعيدة؛ طلباً للعلم أو الرزق أو الاستشفاء أو زيارة الأقارب أو المتعة. كانت وجهة أسفار الناس تقودها التلقائية للدول المواجهة لمناطق إقامتهم؛ فسكان المنطقة الشرقية يساعد موقعها للتواصل مع البحرين والعراق وإيران، فرسخت في أذهاننا مدن البصرة وشيراز وعبدان والأهواز. أما الساحل الغربي للمملكة من شماله إلى جنوبه فثقافة السفر متأصلة في سكانها نتيجة لتبادل المنفعة البينية مع مصر والسودان وإريتريا والحبشة. والمناطق الشمالية للمملكة مفتوحة على العراق والأردن وسورية وفلسطين. وبالنسبة للمناطق الجنوبية للمملكة، ومنها حازان ونجران، فتواصلها مع اليمن والجنوب والقرن الإفريقي وعمان يعود لقرون عديدة. ولم يكن سكان وسط البلاد بمعزل عن السفر والترحال على الرغم من بُعد المسافات التي يقطعونها إلى المناطق المحيطة أو البلاد البعيدة للتجارة بالدرجة الأولى، أو لأداء فريضة الحج. ولم يكن المسافرون بالكثرة العددية التي يتصورها البعض؛ لأن السفر كانت معاناته أكثر من اليوم، فيكون سيراً على الأقدام أو على ظهور الإبل والدواب. وعند دخول السيارات كان الحظيظ الذي يجد مكاناً للركوب بعد أيام من الانتظار، والأمر نفسه بالنسبة للطائرات بعد بدء دخولها للبلاد. كان من يكتب الله له السفر لأي وجهة داخل المملكة أو خارجها تكون سفرياته تلك حديث المدينة والبلدة والقرية يقصّ على أهلها والمقربين له تجربته ومشاهداته وانطباعاته من علوم تبقى في ذاكرة الناس فترة من الزمن، بل إن بعض الناس يؤرخون ذلك الحدث بسنة سافر فلان أو سنة رجع فلان.ومع التطور المتتابع لتحسين البنية التحتية للمواصلات وإنشاء المطارات ومدّ سكة الحديد بين الشرقية والرياض وتحسن أحوال المعيشة التدريجي؛ توسعت مدارك المواطن السعودي بثقافة السفر. ولم تكن الدولة في يوم من الأيام تضع قيوداً على سفر المواطنين للخارج، حتى الدول التي كانت تفتعل الأزمات مع بلادنا وتعلن قطع علاقاتها أو الدول التي لم يكن معها تمثيل دبلوماسي كان أبناء المملكة يسافرون لتلك الدول البعيدة والقريبة. أتذكر أن إجراءات السفر كانت ميسرة على الرغم من بطئها، وكان مطار جدة (القديم) هو البوابة الرئيسة للسفر على عدد محدود من الرحلات عن طريق الطيران السعودي أو العربي أو الأجنبي. غالبية المسافرين كانت وجهتهم مصر (أرض الكنانة كما يُقال في التراث العربي) أو لبنان (أوروبا الشرق)، والموسرون من الناس تقودهم أسفارهم إلى بلاد أبعد مثل جنيف وباريس ولندن. ولا ننسى كذلك بومباي وكراتشي وشيراز وعبدان. لا زالت في مخيلتي أشياء عن القادمين إلى جدة من وسط المملكة ومن غيرها من المناطق، فمن له معارف حلّ ضيفاً عليهم، وبعضهم يسكن في الفنادق مع قلة عددها، وبعضهم في المقاهي أو ينتظرون على أرصفة المطار. بعضهم يفاجأ بنقص أوراق ضرورية تلزمه للحصول على إذن بالخروج أو تأشيرة الدخول للبلد الذي سيسافر إليه، فيضطر لمعاودة السفر إلى الرياض براً غير مكترث ببُعد المسافة ووعورة الطريق لاستيفاء المطلوب من مقرّ عمله أو إحضار أوراق ثبوتية لم يصطحبها معه.

كل هذه المعاناة يتحملها البعض بهدف تحقيق حلم السفر والمتعة، وكانت متعة الأسفار يستأثر بها الرجال دون النساء إلا من كان له وظيفة حكومية في الخارج، فكانت أسرهم أسعد حظاً، فأتيحت لهم فرص التعليم والتعرف على كل جديد من تقنيات العصر المتسارعة والثقافات المتنوعة وغيرها.

قصدتُ من هذه المقدمة اختزال صورة عن الماضي القريب التي أعتقد أن الكثيرين من جيلي لا يزالون يذكرونها، وربما يجد القارئ صورة أكثر جاذبية في كتب أستاذنا الدكتور عبد العزيز الخويطر، ومنها كتابا (أي بني) و(إطلالة على التراث). أما اليوم فتشهد المملكة تطوراً مذهلاً في حركة النقل وإنشاء البنى التحتية للمواصلات، وأصبح لدينا مطارات دولية وإقليمية ومحلية يزداد عددها بشكل مطَّرد مع توسع حركة التنمية وعدد السكان، وتطور أسطول الخطوط السعودية لتشمل خدماته مناطق بعيدة من العالم، بالإضافة إلى تغطية النقل الداخلي. غير أن الخطوط السعودية لم تعُدْ قادرةً على توفير المقاعد الكافية للمسافرين إلى الداخل أو الخارج، ولهذا فتح المجال بعد طول انتظار لدخول شركات طيران خاصة لنقل المسافرين مع وجود شركات طيران أجنبية وعربية تعمل وفق الاتفاقيات الثنائية مع الخطوط السعودية. ولا زالت مطاراتنا تشهد ازدحاماً شديداً في مواسم الحج والعمرة والإجازات الرسمية وفي الحالات الاستثنائية. وتشكل الرياض عاصمتنا الحبيبة نقطة جذب للاستقرار والعمل؛ لوجود الجامعات والمعاهد والمراكز البحثية والمراكز التجارية الكبرى. وتشهد الرياض بصفة مستمرة مؤتمرات وندوات ولقاءات رسمية ودولية وقارية وإقليمية ومحلية. وقد سعدت الرياض ولبست أزهى حلة عندما استضافت مؤتمر قادة منظمة الأوبك الثالث الذي عُقد يومي السبت والأحد (7-8 ذي القعدة) الموافق (17-18 نوفمبر). وحرصاً على تسهيل حركة المرور والتخفيف عن الطلاب والطالبات وموظفي الدولة صدرت توجيهات القيادة بأن يكون يوما المؤتمر إجازة في الرياض فقط دون غيرها من المدن، فاكتشف سكان الرياض أنهم أمام فرصة ذهبية فربطوا هذين اليومين بيومي الخميس والجمعة، والنابهون منهم تقدَّموا بإجازات لأيام الأسبوع التي سبقت المؤتمر، وهبّ الناس زرافات على مكاتب الخطوط السعودية والطيران الأجنبي وشركات الطيران الخاصة، وظهرت حركة زحام شديدة واختناقات مرورية، كلّ يرغب في الخروج من الرياض إلى أيّ وجهة قريبة أو بعيدة، إما بمفرده وإما مع عائلته، ووصف لي بعض الأصدقاء أن الطريق إلى المنطقة الشرقية كان على غير المعتاد، وعلمنا من وسائل الإعلام أن جسر الملك فهد إلى البحرين شهد زحاماً فجائياً لدرجة الاختناق. وارتفعت نسبة الإشغال للغرف الفندقية والشقق المفروشة في الشرقية وفي البحرين ودبي، والأمر كذلك في جدة ومكة.أعتقد أن هذا الأمر يشكل ظاهرة صحية، ويدلّ على ولع أحفاد سكان الصحراء بالسفر كما بدأت حديثي هذا، ويدخل السرور على القطاع الخاص من جهة والهيئة العليا للسياحة للوقوف على مواضع الخلل وتصحيحها؛ لكي تتعاون مع شركائها من المؤسسات والهيئات الحكومية والأهلية لتطوير الخدمات التي يحتاج إليها المسافرون. إن خروج عدد كبير من سكان الرياض في الوقت الذي تشهد فيه المدينة مناسبة دولية جاء بتلقائية وعفوية، ولا شك أن تمتُّع أهل الرياض بإجازة استثنائية سبَّبت غيرة لدى سكان المناطق الأخرى، وانعكس ذلك في تبادل الرسائل المتعددة الوسائط عبر الجوال فيها روح الدعابة بين أبناء الرياض والمناطق الأخرى.

وعودةً إلى قمة الأوبك الثالثة؛ فقد كان فارسها خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله، وكانت الرياض وأهلها على مستوى الحديث؛ فالقمة مناسبة تاريخية، ونتائجها إن شاء الله سيكون لها مردودها الإيجابي على العالم بأسره؛ فالملك عبد الله قطع كل التخرصات ووضَّح بجلاء أن البترول هو للإعمار والتنمية وإسعاد البشرية، وليس للمزايدات السياسية بين الدول المنتجة والمستهلكة. كانت مبادرة الملك عبد الله بإعلانه تبرُّع المملكة بمبلغ ثلاثمائة مليون دولار لصندوق البحوث والدراسات للبترول والبيئة خير دليل على السياسة التي تنتهجها المملكة في التعامل مع الأحداث. وما لفت نظري أثناء انعقاد القمة وما صاحبها من ندوات علمية ومعارض متخصصة وتراثية وزيارات لبعض ضيوف البلاد للمراكز والمتاحف الثقافية في الرياض أن المواطنين لم يستوعبوا الحدث، فمن خلال مشاهداتي لبعض البرامج التي يبثُّها التلفزيون السعودي بقنواته الأربع أنها لم تَرْقَ إلى الحدث، فلم توضّح الصورة بجلاء لأبناء هذا الجيل قصة النفط واكتشافه وتطور صناعته وأثره في التنمية في بلادنا على مختلف الأصعدة، والمصانع العملاقة القائمة على النفط ومشتقاته، وما وفرته من وظائف لآلاف المواطنين، وخير شاهد أمامنا أكبر مدينتين صناعيتين في العالم، وهما الجبيل وينبع. كنت أتمنى أن يتعايش مع هذا الحدث وزارة التربية والتعليم والجامعات والمعاهد والكليات ليس في الرياض وحدها بل في جميع مناطق المملكة. مضى ما يقرب من خمسين عاماً على تأسيس منظمة الأوبك، ومواقف هذه المنظمة ودورها العالمي يحتاج إلى تأمل، ومواقف المملكة التاريخية للقضايا المصيرية من خلال عضويتها القوية في المنظمة يحتاج إلى تأمل فكري وتاريخي وعقلاني، وما أحداث حرب رمضان وتبعاتها ببعيدة عن ذاكرتنا. وإن انفضّ اجتماع قمة الأوبك وعاد الزعماء والقادة والوفود الرسمية والإعلامية إلى بلادهم فإن الحدث سيبقى في الذاكرة، وسيكون للمملكة دور قيادي كبير حتى انعقاد قمة الأوبك الرابعة.هنيئاً لقيادتنا بهذا النجاح، وهنيئاً لأمير الرياض على التهيئة والاستعداد لهذه المناسبة التاريخية، وهنيئاً لمَن قضى وقتاً ممتعاً في الرياض في هذه الأجواء الجميلة، وهنيئاً لمن تمتَّع بهذه الإجازة ولمن زار واعتمر، وهنيئاً لمن أسعد نفسه وأهله في فسحة جميلة، وشكراً لأهل الرياض والمقيمين فيها، وإلى مناسبات أخرى تسعدنا ونسعد بها.والله الموفق.



salrahid@yahoo.com

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد