«الجزيرة» - فيصل الحميد
عرف المسلمون قبل أكثر من 1400 عام وجود دورات اقتصادية، وعرفوا أيضاً أن السنين التي تحصل فيها فورة اقتصادية لا بد من ادخار جزء من مكتسباتها وإدارة الفوائض واستثمارها لتعينهم على السنين العجاف التي لا بد من الانتهاء عندها.
ويبرز ذلك في كتاب الله على لسان سيدنا يوسف عليه السلام عندما فسّر لملك مصر رؤياه {وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ؟}.
وجاء في التفسير (أي يأتيكم الخصب والمطر سبع سنين متواليات ففسر يوسف عليه السلام البقر بالسنين لأنها تثير الأرض التي تستغل منها الثمرات والزروع، وهن السنبلات الخضر، ثم أرشد يوسف عليه السلام أهل مصر إلى ما يعتدونه في تلك السنين، وقال مهما استغللتم في هذه السبع السنين الخصب فادخروه في سنبله ليكون أبقى له وأبعد عن إسراع الفساد إليه إلا المقدر الذي تأكلونه، وقصد عدم الإسراف لينتفع به في السبع الشداد وهن السبع السنين التي تعقب هذه السنين المتواليات).
ولنا في المملكة تجربة مع الدورات الاقتصادية عندما بلغ النمو ذروته متزامناً مع ارتفاع أسعار النفط، في مطلع الثمانينات قبل أن يتراجع في نهاية التسعينيات. وليعود اليوم من جديد في دورة أخرى بدأت قبل نحو خمسة أعوام وقد يكون بلغ ذروته أو قريباً منها وهو ما يشير إليه سعر برميل النفط سنبلة المملكة والمورد الوحيد لها.
واعتماد الدولة على مصدر وحيد يطرح تساؤل كبير هل نحن ندخر في رخائنا لشدتنا؟ وكيف؟
وحول هذا التساؤل يقول الدكتور محمد الجاسر نائب محافظ النقد إن المملكة تنتهج في إدارتها للفوائض المالية أفضل المقاييس العالمية، وقال (رغم أننا نستخدم سياسة محافظة تردنا بشأنها انتقادات، إلا أنني أقول اطمئنوا على مستقبل الفائض).
وأضاف الجاسر أن المملكة تتبع سياسة مالية حكيمة للحد من تقلبات الدورات الاقتصادية الحادة، وذلك من خلال استخدام الإيرادات النفطية المرتفعة في بناء الاحتياطيات، ومن ثم الاستفادة منها في حالة انخفاض الإيرادات.
ولكن بعض الاقتصاديين يرى أن إدارة الفوائض تبدو غير مناسبة وهو ما أشارت إليه دراسة تطوير الفوائض المالية بمنتدى الرياض الاقتصادي والتي ستناقش في دورته القادمة من أن سلبيات استخدام الفوائض تتمثّل في غياب المفهوم المحدد للفوائض فلا يمكن احتسابها أو تقديرها كما هو الحال لقواعد تحديد الإنفاق الجاري قياساً مع الإيرادات النفطية ولا قواعد تحويل بعض من الدخل للإنفاق الرأسمالي.
وانتقدت الدراسة وزارة المال التي تقوم بتوظيف أكثر الفوائض عن طريق صندوق الاستثمارات العامة ومؤسسة النقد كونها تتسم بأداء الإدارة الحكومية، حيث تستثمر في ودائع أو أوراق مالية خارجية وهي ما تتسم بانخفاض العائد خصوصاً سندات الحكومة الأمريكية، حيث يتراوح العائد من هذه الاستثمارات ما بين 3 و5 بالمائة.
كما تساءلت الدراسة التي أعدها فريق من الاقتصاديين عن غياب الإستراتيجية الواضحة للتعامل مع الإيرادات البترولية وغير البترولية وللتعامل مع الإنفاق الجاري والرأسمالي وبقاء الفوائض مجرد حصيلة لما يفيض من الإيراد الفعلي عن الإنفاق الفعلي.
وعن تجارب الأمم الأخرى أوردت الدراسة بعضها في كيفية إدارة الفوائض للاستفادة منها محلياً وذكرت أن صندوق الأجيال القادمة في الكويت والذي استفادت منه أثناء الغزو في مصاريف حكومة المنفى، وهيئة أبوظبي للاستثمار والتي تعد ثاني أكبر مستثمر في العالم بعد بنك اليابان، كما أشارت إلى إنشاء النرويج صندوق بترول النرويج، وحكومة سنغافورة التي أسست شركة لإدارة استثماراتها المالية باسم شركة حكومة سنغافورة للاستثمارات الخاصة المحدودة، وحكومة ماليزيا التي أنشأت الخزانة الوطنية كشركة عامة محدودة المسؤولية وفق نظام الشركات الماليزية.
واستنتجت الدراسة أنه لا يصلح المصرف المركزي للعمل كجهاز استثماري للدولة ولا أي جهاز يدار بالأسلوب الحكومي، وليس بإمكان شركة واحدة أن تتولى وحدها مسؤولية إدارة موارد الدولة، إذ يحتاج الأمر لشركات استثمار يعامل موظفوها ومجلس إدارتها على أنهم موظفو قطاع خاص وأن يحصلوا على مكافأة مجزية لأعمالهم. وتشكل هذه الشركات من خلال الاستثمار الذكي مصدر دائم وقوي لدعم الموازنة العامة. وتعتبر أداة قادرة على إنشاء شراكات اقتصادية مع شركات رائدة في مجالها على المستوى العالمي.
واختتمت الدراسة بأن تجربة الصين تدل على أن الاستثمار في سندات الخزينة ليس هو الأمثل، بل ربما كان الطريقة الأقل جدوى استثمارياً.
في هذا الصدد حذَّر الخبير الاقتصادي روبيرت شيلر، أستاذ علم الاقتصاد بجامعة (يال) الأمريكية، من مخاطر قال إنها (فقاعة) تسيطر على الاقتصاد العالمي، بفعل النشاط المضاربي، خاصة على أسواق المال والنفط والعقارات على المستوى الدولي.
واعتبر أن دول الخليج مهدّدة بدورها بخطر هذه الفقاعة، لأنها تظهر نفس السمات المرضية التي تعاني منها الولايات المتحدة في هذه القطاعات، مع عوارض أشد خطراً مردها الدور الكبير الذي يلعبه النفط في اقتصادها، داعياً إياها إلى العمل بجد لتنويع مصادر دخلها.
وكشف شيلر أن جميع الإحصائيات المتعلّقة بأسواق النفط والعقود الآجلة الموقّعة للأعوام العشرين المقبلة تشير إلى ترقب الأسواق لتراجع كبير في أسعار النفط يترافق مع انخفاض في الطلب، مستنتجاً أن الارتفاع الحالي غير المبرر للأسعار يعود إلى نشاط المضاربين.