منطق السياسة دائماً ما يحدِّد ويوجِّه منطق الاقتصاد، حتى وإن تمكن في بعض من الأحيان المنطق التابع من التأثير نوعاً ما في المتغير المستقل؛ فمتغير السياسة يتحرَّك من قمم النشاطات والسلوكيات والمصالح الإنسانية إلى قواعدها، فيما يتحرك متغير الاقتصاد من قواعد النشاطات والسلوكيات والمصالح الإنسانية إلى أعالي مستوياتها، لكن أيضاً بعيد مقررات السياسة وتوجهاتها، ربما لكون المتغير السياسي يضع في الاعتبار وكمقدمة لأولوياته كافة المتغيرات الإنسانية والبيئية والمادية، فيما لا يضع متغير الاقتصاد إلا العوامل الاقتصادية في مقدمة اعتباراته واهتماماته وميكانيكياته، وربما لكون عامل السياسة يتحرك بمنظور إنساني كلي وشامل، فيما يتحرك منطق الاقتصاد بمنطق السوق وآلياته الجزئية.
لكن الأهم من ذلك كله تركيز عامل السياسة على متطلبات الحياة الإنسانية الوطنية والإقليمية والدولية بكامل نشاطاتها ومتغيراتها ومستجداتها، فيما يركز عامل الاقتصاد على منطق السوق وآلياته ومتغيراته ومستجداته. وبمنطق عقلاني كلي حكيم مواكب لمنطق الحياة الإنسانية وواقعها دائماً ما يركز عامل السياسة على المصالح العامة الكلية للجميع بعيداً عن محددات وقوى المصالح الخاصة أو الفردية أو حتى الشخصية التي يحتكم إليها في أغلب الأحيان منطق الاقتصاد.
هذا ما رأيناه ولمسناه تحديداً في كلمة خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز في افتتاح قمة أوبك الثالثة بالعاصمة السعودية الرياض التي أكد فيها أربع قواعد سياسية أساسية: الأولى تؤكد أن النفط وُجد لخير الجميع مصدرين ومستهلكين، والثانية تشدِّد على أن النفط سلعة للبناء والتقدم وليست للاحتكار، والثالثة تؤكد أهمية ألاَّ يتحول النفط إلى سلعة للصراع والنزاع، والرابعة تدعو إلى ضرورة التركيز على مقومات منطق العلم والبحوث العلمية حول الطاقة والبيئة والتحولات المناخية.
كلمة الملك عبد الله تنطلق من آليات مصالح المنظور الشامل والكلي لمتغير السياسة ومقرراته؛ فالإرادة السياسية الحكيمة التي تجسدت في الكلمة السامية دائماً ما تحكم وتوجّه آليات القرار السياسي أياً كانت توجهاته الاقتصادية انطلاقاً من منطق الخير العام أو المصلحة العامة لجميع الأطراف؛ بمعنى أدق كما أشار - يحفظه الله - أن الحقيقية تثبت أن منظمة أوبك تتصرف من منطلق الاعتدال والحكمة الذي دائماً ما يحقق العدالة للجميع؛ فالركون إلى منطق الربحية بحكم المطلق دائماً يؤدي إلى حدوث فجوة عميقة بين الأطراف تنمي من حالة الغموض وترفع من مستويات التوتر والقلق الذي يدفع إلى حالات من النزاع والصراع. وبذات المنطق فإن استخدام النفط كوسيلة لتحقيق غايات الجميع لا تمنع الاحتكار وحسب، وإنما تحقق الاستقرار لجميع الأطراف المعنية بتصدير النفط أو استهلاكه.
من هنا يمكن القول: إن قمة الرياض لمنظمة أوبك النفطية العالمية قمة نادرة من جميع جوانبها وبكافة مكوناتها، سواء من حيث عامل الزمن؛ حيث يفصل بينها وبين قمة الجزائر الأولى اثنان وثلاثون عاماً. وأيضاً من حيث عامل القيمة؛ حيث ارتفعت أسعار النفط في قمة الرياض عن قمة كاراكاس قرابة ثلاثة أضعاف، فيما ارتفعت قيمة النفط في قمة الرياض عن قمة الجزائر بنحو خمسة أضعاف. وأخيراً من حيث عامل الأحداث والتطورات الإقليمية والدولية؛ فقمة الرياض عُقدت في خضم تطورات وتحديات ومستجدات وأزمات إقليمية وعالمية مهمة وحساسة بل وخطيرة تتطلب معالجتها بمنطق الحكمة السياسية.
لهذه الأسباب السياسية والاقتصادية والبيئية، بل وحتى العلمية، جاء قرار الملك عبد الله بإنشاء صندوق بقيمة 300 مليون دولار لتمويل الأبحاث العلمية حول الطاقة والبيئة والتحولات المناخية. فالحياة الإنسانية الاقتصادية في منطق الملك عبد الله السياسي لا قيمة لها إن تضرَّرت البيئة من منطق العرض والطلب وبتحريك من متغير الربح المادي. وتوظيف العلم ومنطقه البحثي في إيجاد معادلة متوازنة وموزونة لتأمين متطلبات الحياة الإنسانية الآمنة والمستقرة هدف سياسي يتصدر أولويات منطق السياسة الحكيمة.
لا جدال إذن في أن قمة أوبك الثالثة قمة استراتيجية إقليمية ودولية استراتيجية وضع فيها خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز النقاط الصحيحة على الحروف الصحيحة كي يغدو بمقدور الجميع - مصدرين ومستهلكين - قراءتها بوضوح، واستيعابها بسهولة، ووعي حيثياتها بدقة، وأخيراً لاستهلاكها بعناية وحرص.