* كل عام وأنتم بخير..
* شعرت بسعادة كبيرة، حين بدأت ميادين وشوارع وأرصفة مدينتي، ابتداءً من يوم العيد السعيد، تخلو من (مباسط) شراب السوبيا، وبدأنا كمجتمع في هذه المدينة، وكأننا نعود إلى طبيعتنا ووضعنا الذي كنا فيه قبل شهر رمضان المبارك.
* لا أخفيكم سراً، أني كنت منذ نحو عامين، وأنا أعاني من فوبيا خاصة، تنتابني كلما شاهدت قدور وسطول وبراميل شراب السوبيا، وهي تنتظم الأرصفة، وحتى مداخل ومخارج المدينة على امتدادات عدة كيلات، أصبحت سوقاً لتجار هذا الشراب الموسمي، الذي دخله كل من هب ودب، حتى العمالة الآسيوية، والنساء الإفريقيات المتخلفات عمرة، والأطفال والمراهقين، وأبناء البادية.. الكل هنا يجهد، كل يوم من الظهر وحتى المغرب، وهو ينادي على شراب السوبيا..!
* تحول سوق السوبيا في العامين الفارطين، إلى ظاهرة أو تظاهرة لم نعهدها من قبل. هذه حالة تذكرني بحالة سوق (الشماغ) قبلها، حتى ليخيل للمرء، أن مجتمعه لا شغل له، إلا بيع وشراء السوبيا، فهو ينقسم في هذه الفترة من العام، إلى بائع للسوبيا، وآخر مشترٍ وشارب لها. وقبلها كان بين بائع ل (الشماغ)، ومشترٍ لها.
* اكتشفت خلال الأيام الأولى من شهر شوال هذا، اني لست وحدي من يعاني من هذه الفوبيا. كثيرون يخافون من الظاهرة، ويشكّون في سلامة كل ما يعرض من سوبيا. كيف استطاعت السوبيا اكتساح سوق الأشربة في شهر رمضان المبارك، وحلت ضيفة على موائد الصائمين ..؟ وكيف اكتشف البسطاء من الناس، الذين نراهم خلف براميل أو قدور أو سطول ملأى بسوبيا، بين حمراء وبيضاء وصفراء، ان مصدر رزقهم الوحيد، هو في لتّ الشعير والحنطة والزبيب والخبز وغيرها، ثم بيعها للعطاشى من الصائمين في رمضان ..؟!
* يقول أهل هذه الصنعة من قدامى الطائفيين والمكيين والمدينيين، أنهم كانوا يصنعون السوبيا في بيوتهم، في أمكنة نظيفة، وقدور نظيفة، وأنهم يلتون لها الزبيب والشعير والخبز الجاف والتمر هندي في ماء، ثم يتركونها لتخمر مدة ثلاثة أيام، فيصفونها من الشوائب، ويضيفون إلى الشراب السكر والقرفة والهيل، وغير ذلك مما يحسن من مذاقه ولونه لا أكثر.
* اليوم لا ندري مَن يصنع هذا الشراب..؟ وأين يصنع هذا الشراب...؟ ومم يصنع..؟ وهذا هو مصدر خوفي وخوف البعض من الظاهرة نفسها، حتى أنّا أصبحنا نسمع روايات تزيد خوفنا خوفاً، فالذين يقومون على صناعة هذا المشروب اللذيذ في شهر رمضان في الغالب، هم من العمالة المتخلفة، ويستخدمون في صنعه خبزاً جافاً، مما يكدس ويجفف وراء كواليس الأفران، وفيه ما الله عالم به، لأنه معد في الأصل علفاً للحيوانات، ثم يضيفون إليه خمائر صناعية، وأصباغاً ملونة، بدون مقاييس صحية، فالذين يصنعون أو يوزعون ويبيعون، هم كذلك بدون تراخيص رسمية، ولا شهادات صحية..! فالله.. الله على السوبيا العجيبة، التي توفر فرصاً خيالية للعمل في شهر واحد، بهذا القدر الذي يشبه التظاهر والظاهرة..!!
* لا أقول مثل هذا الكلام، تكريهاً في شراب السوبيا، أو تنفيراً منه، أو قطعاً لأرزاق المرتزقين من ورائه، فقد كنت من شاربيه قبل أكثر من عامين، يوم كنا نشتريه من بيوتات صنعة موثوق في صنعتها وأمانتها وصدقها، ولكني أعبر عن شعور خاص، تجاه أمر زاد حتى عمّ، ممن لا دراية لهم ولا دربة ولا هم إلا الكسب. هنا مصدر الخطر يا سادة. ففي العام الماضي، نشرت الصحف، عن شراب سوبيا مخلوط بعرق مسكر، والعرق المسكر والعياذ بالله، هو صنعة العمالة الآسيوية في أماكن مشبوهة، وبمكونات أقل ما يقال عنها، انها قذرة وخطرة على صحة الإنسان.. هذه ناحية. ناحية أخرى. فقد اطلعت على تقرير للباحثة (هوازن حامد مطاوع)، تشير فيه إلى وجود نسبة من الكحول في السوبيا، ووجود خليط من البكتيريا والفطريات والخمائر الضارة بنسب عالية. البكتيريا 12500 خلية، والخمائر 12000 خلية، والفطريات 400 خلية.
* أعيد ما قلته أعلاه. لست منفراً من هذا الشراب الذي يحبه كثير من الناس، حتى في غير رمضان، ولكني خفت وما زلت أخاف، من الظاهرة نفسها، ومن شكوكي المتعاظمة في العامين الأخيرين، في مكونات السوبيا، وفي طريقة التصنيع، وفي القائمين على هذه الصنعة التي اجتذبت إليها كل من هب ودب، من أولئك المقيمين بصفة غير شرعية، ومن صغار سن ومراهقين ونساء غريبات، لا دافع لكثيرٍ منهم سوى الكسب السريع، بدون رادع أو رقيب أو محاسب.
* أذكر أني كنت قبل أكثر من عشرين عاماً، أرافق الدكتور (حسن حجرة)، رئيس بلدية الطائف الأسبق، في بعض جولاته على المطاعم والمخابز وغيرها، وكان لا يكتفي بما هو ظاهر للناس منها في العادة، وإنما يدخل إلى الكواليس خلف أبواب غامضة. لقد كنا نقف على أمور عجيبة.. فكثير من المطاعم والمخابز، ومنافذ بيع ما يأكله الناس ويشربونه، ويؤثر في صحتهم سلباً أو إيجاباً، يجعل غرفاً داخلية غير مرخصة، لسكن عماله، ووجدنا ذات مرة، مطاعم تفكك اللحوم والدجاج المجمد في مياه ساخنة داخل مسابح الحمامات (البانيو)..! التي يغتسل بها العمال آخر النهار...! ومخابز بدائية كانت تعجن الدقيق بأرجل عمالها، وروائح تزكم النفوس، تواجه الداخل إلى ما وراء المظاهر المزركشة للمطاعم.. هذا في مطاعم قائمة على شوارع رئيسة، فما بالك بشراب يصنع في سكن عمالة وافدة، وفي استراحات بعيدة عن أعين الناس.. كل ذلك والناس لا يسألون عما يضرهم أو ينفعهم ..؟!
* وحتى أخفف من (فوبيا السوبيا)، أقف وإياكم، عند كلمات لواحد من عشاق السوبيا، اسمه (أحمد الحربي)، عرضها في موقع أدبي، يقول فيها مما يقول: إنه توجه ذات مساء، إلى ثلاجة بيته، فأخذ منها ما تيسر من سوبيا مثلجة، فأذابها - كما يقول - حتى تكون بين جنة ونار..! ومما يبدو لي من كلامه، انها هي التي أذابته حتى أصبح بين جنة ونار، فهو يقول، بعد تجاوز الرمزية اللطيفة في هذه الكلمات:
** أحتفل بها أيما احتفال..
** لوحدي..
** أزفها إلى نفسي... وأطلق الزغاريد والهتافات، والمواويل..
** لوحدي..
** أنطلق بها إلى غرفتي..
** لوحدي..
** أغلق باباً بعد باب..
** وأسدل ستاراً بعد ستار..
** أضمها إلى صدري..
** حتى تكون في مقام الشعار والدثار.
** أملأ كوباً زجاجي اللون من هذه المعتقة.
** أرفعها بيد لا تكاد تثبت.. فرحاً وطرباً.
** تقترب من فمي.. فيزداد رجفان قلبي، غبطة وسروراً.
** أسدل ظهري إلى كرسي وثير.
** أحتسيها..
** وأحتسيها..
** بكل عرق في جسدي النحيل.
** فأرى ما لا يراه الناس..
** وأبصر ما لا يبصره الناس..
** وأسمع ما لا يسمعه الناس..
* أخيراً.. نريد شراب سوبيا، من ذلك الذي كان الناس في القديم، يرونه ويبصرونه ويعرفونه، وأن تكون جهاتنا البلدية والصحية والرقابية، أمينة على حياتنا وصحتنا مثلما كانت من قبل، فلا يعرض في أسواقنا، إلا ما كان موافقاً لشروط الأمن الغذائي، والسلامة من كل شر.
* وقاكم الله ووقانا كل شر، وأبعد عنا جميعاً، تلك الفوبيا العجيبة من شراب السوبيا ..!!
assahm@maktoob.com