Al Jazirah NewsPaper Sunday  21/10/2007 G Issue 12806
مقـالات
الأحد 10 شوال 1428   العدد  12806
السِّتُ والقضاء
د. سلمان بن فهد العودة

شهر شوال زمن تقوى الرغبة فيه إلى الطعام؛ لوقوعه عقب الصوم، فصومه شاق مجهد؛ لذا كان الأجر فيه عظيماً، فقد روى مسلم عَنْ أَبِي أَيُّوبَ الأَنْصَارِي - رضي الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: (مَنْ صَامَ رَمَضَانَ ثُمَّ أَتْبَعَهُ سِتًّا مِنْ شَوَّالٍ كَانَ كَصِيَامِ الدَّهْرِ)،

وفي حديث ثَوْبَانَ - الذي أخرجه ابن خزيمة وغيره - عَنِ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: (مَنْ صَامَ رَمَضَانَ فَشَهْرٌ بِعَشَرَةِ أَشْهُرٍ وَصِيَامُ سِتَّةِ أَيَّامٍ بَعْدِ الْفِطْرِ فَذَلِكَ تَمَامُ صِيَامِ السَّنَةِ)، يعني رمضان وستة أيام بعده، وإنما كان كصيام الدهر، لأن الحسنة بعشر أمثالها، فرمضان بعشرة أشهر، والستة بشهرين.

فمن صام الست من شوال فإنه يستكمل بها أجر صيام الدهر كله، كما أن صيام شوال وشعبان كصلاة السنن الرواتب قبل الصلاة المفروضة وبعدها، فيكمل بذلك ما حصل في الفرض من خلل ونقص، فإن الفرائض تكمل بالنوافل يوم القيامة.. وأكثر الناس في صيامه للفرض نقص وخلل، فيحتاج إلى ما يجبره من الأعمال، ومعاودة الصيام بعد صيام رمضان علامة على قبول صوم رمضان، فإن الله تعالى إذا تقبل عمل عبد، وفقه لعمل صالح بعده، كما قال بعضهم: ثواب الحسنة الحسنةُ بعدها، فمن عمل حسنة ثم أتبعها بحسنة بعدها، كان ذلك علامة على قبول الحسنة الأولى، كما أن من عمل حسنة ثم أتبعها بسيئة كان ذلك علامة رد الحسنة وعدم قبولها.

إن الصائمين لرمضان يوفون أجورهم في يوم الفطر، وهو يوم الجوائز فيكون معاودة الصيام بعد الفطر شكراً لهذه النعمة، فلا نعمة أعظم من مغفرة الذنوب، كان النبي يقوم حتى تتورّم قدماه، فيقال له: أتفعل هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخّر؟! فيقول: (أفلا أكون عبداً شكوراً؟)، وقد أمر الله - سبحانه وتعالى - عباده بشكر نعمة صيام رمضان بإظهار ذكره، وغير ذلك من أنواع شكره، فقال: {وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} «البقرة:185»، فمن جملة شكر العبد لربه على توفيقه لصيام رمضان، وإعانته عليه، ومغفرة ذنوبه أن يصوم له شكراً عقب ذلك.

وكان بعض السلف إذا وفق لقيام ليلة من الليالي أصبح في نهارها صائماً، ويجعل صيامه شكراً للتوفيق للقيام.

وكان وهيب بن الورد يسأل عن ثواب شيء من الأعمال، كالطواف ونحوه، فيقول: لا تسألوا عن ثوابه، ولكن سلوا ما الذي على من وفق لهذا العمل من الشكر، للتوفيق والإعانة عليه.

إن كل نعمة على العبد من الله في دين أو دنيا يحتاج إلى شكر عليها، ثم التوفيق للشكر عليها نعمة أخرى تحتاج إلى شكر ثان، ثم التوفيق للشكر الثاني نعمة أخرى يحتاج إلى شكر آخر، وهكذا أبداً، فلا يقدر العباد على القيام بشكر النعم، وحقيقة الشكر الاعتراف بالعجز عن الشكر.

وصيام الست من شوال عمل مستحب، وهو قول الشافعي وأحمد وإسحاق، وهو المروي عن ابن عباس، وكعب الأحبار، وهو قول طاوس والشعبي وميمون بن مهران وابن المبارك، واستدلوا بالأحاديث المتقدمة في فضلها مما رواه مسلم وغيره، وقد كرهها قوم منهم: مالك وأبو حنيفة؛ معللين ذلك بالخوف من اعتقاد فرضيتها لدى العامة ومن قل علمه، وبأن فيها مشابهة لأهل الكتاب من حيث الزيادة على شهر الصوم المفروض.

ولا وجه لهذا، فقد ثبتت السنة بصوم الست من شوال في مسلم وغيره، ولو تركنا السنة خوف الزيادة على الفرض في الصوم لتركنا جميع المندوب من صوم عاشوراء وأيام البيض وغير ذلك، وقد قيل إن مالكاً كان يصومهما في خاصة نفسه، وقد كان المتأخرون من الأحناف لا يرون بصيامها بأساً.

قال ابن عبد البر: لم يبلغ مالكاً حديث أبي أيوب على أنه حديث مدني، والإحاطة بعلم الخاصة لا سبيل إليه، والذي كرهه مالك قد بينه وأوضحه خشية أن يضاف إلى فرض رمضان، وأن يسبق ذلك إلى العامة، وكان متحفظاً كثير الاحتياط للدين، وأما صوم الستة الأيام على طلب الفضل، وعلى التأويل الذي جاء به ثوبان فإن مالكاً لا يكره ذلك إن شاء الله؛ لأن الصوم جنة، وفضله معلوم، يدع طعامه وشرابه لله، وهو عمل بر وخير، وقد قال تعالى: {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}، ومالك لا يجهل شيئاً من هذا.

صفة صومها

من العلماء من استحب صومها من أول الشهر متتابعة، وهو مذهب الشافعي، وقول ابن المبارك، ومنهم من لم يفرق بين التتابع والتفريق من الشهر كله، وقال: هما سواء، وهو مذهب الإمام أحمد، وقول وكيع، وذهب ذهب معمر وعبد الرزاق إلى أنها لا تصام عقب الفطر مباشرة؛ لأنها أيام توسعة وأكل وشرب، وإنما يصام ثلاثة قبل أيام البيض وأيام البيض أو بعدها، والأمر في ذلك واسع، ولا تثريب على من فعل أيّاً من الأقوال الثلاثة.

من عليه قضاء

ظاهر حديث أبي أيوب الذي مر بنا أنه لا يصوم الست من شوال، ولا يحصل على فضيلتها وذمته مشغولة بأيام من رمضان أفطرها، فلا يستحق هذا الوصف، ولا يتحصل على الأجر إلا من أكمل رمضان، والذي عليه قضاء لا يكون مكملاً لرمضان.

أن فضيلة صيام الست من شوال حاصلة لمن أفطر رمضان بعذر، قالوا: إن صيام الست لها خصوصية، وقضاء رمضان موسع فيه، ولا يجب أداؤه في شوال خاصة «فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ»، والرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي قال: (مَنْ صَامَ رَمَضَانَ ثُمَّ أَتْبَعَهُ سِتًّا مِنْ شَوَّالٍ..)، وهو يعلم أن ذمم كثير من الناس قد تكون مشغولة بالقضاء، ومع ذلك لم يشترط في الحديث بأن يقضي أولاً ما عليه.

وعلى هذا فمن كانت ذمته مشغولة بقضاء أيام أفطرها بعذر من رمضان يتسع لها شوال مع صيام الست؛ فهذا يستعين الله، ويشمر لأمر ربه، ويقضي ما عليه، ثم يصوم الست، إبراءً لذمته وتحصيلاً للأجر، ومن كانت ذمته مشغولة بقضاء أيام أفطرها لعذر، ولا يتسع شوال لصيامها مع الست، فهذا ممن حبسه العذر، فيصوم الست أولاً تحصيلاً لفضلها، ثم يقضي؛ فإنه لم يفطر رمضان إلا لعذر، والأدلة كثيرة على تحصيل المعذور للأجر الكامل طالما حبسه عذر، كما في الصحيحين عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رضي الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - رَجَعَ مِنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ فَدَنَا مِنَ الْمَدِينَةِ فَقَالَ: (إِنَّ بِالْمَدِينَةِ أَقْوَامًا مَا سِرْتُمْ مَسِيرًا وَلاَ قَطَعْتُمْ وَادِيًا إِلاَّ كَانُوا مَعَكُمْ)، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ؟ قَالَ: (وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ، حَبَسَهُمُ الْعُذْرُ).

صيام الست في غير شوال

صيام الست لها اختصاص بشوال من طريقين:

أحدهما: أن المراد به الرفق بالمكلف؛ لأنه حديث عهد بالصوم، فيكون أسهل عليه، ففي ذكر شوال تنبيه على أن صومها في غيره أفضل، هذا الذي حكاه القرافي من المالكية، وهو غريب عجيب.

الثاني: أن المقصود به المبادرة بالعمل، وانتهاز الفرصة خشية الفوات، قال تعالى: {فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ}«البقرة:148»، وقال: {وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} «آل عمران:133»، وهذا تعليل طائفة من الشافعية وغيرهم، قالوا: ولا يلزم أن يعطى هذا الفضل لمن صامها في غيره؛ لفوات مصلحة المبادرة والمسارعة المحبوبة لله.

قالوا: وظاهر الحديث مع هذا القول. ومن ساعده الظاهر فقوله أولى.

ولا ريب أنه لا يمكن إلغاء خصوصية شوال، وإلا لم يكن لذكره فائدة.

وقال آخرون: لما كان صوم رمضان لا بد أن يقع فيه نوع تقصير وتفريط وهضم من حقه وواجبه ندب إلى صوم ستة أيام من شوال، جابرة له، ومسددة لخلل ما عساه أن يقع فيه؛ فجرت هذه الأيام مجرى سنن الصلوات التي يتنفل بها بعدها جابرة ومكملة، وعلى هذا تظهر فائدة اختصاصها بشوال، والله أعلم.

إن بعض الناس إذا صام الست من شوال في السنة يظن أنه يجب عليه الصيام في كل سنة، وهذا غير صحيح فالأمر بالخيار، وفي أحمد والترمذي والحاكم عن أم هانئ (الصَّائِمُ الْمُتَطَوِّعُ أَمِيرُ نَفْسِهِ إِنْ شَاءَ صَامَ وَإِنْ شَاءَ أَفْطَرَ).



salman@islamtoday.net
لإبداء الرأي حول هذا المقال أرسل رسالة قصيرة SMS  تبدأ برقم الكاتب 6847 ثم إلى الكود 82244

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد