الحمدلله وحده، وصلى الله وسلم على من لا نبي بعد، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فقد كانت حياة سماحة الشيخ الجليل الإمام العلامة الكبير عبدالعزيز بن عبدالله بن عبدالرحمن بن باز معمورة بالإيمان والبر والتقوى، حيث وفقه الله لأن يضرب بسهم وافر في أكثر مجالات الخير ودروب النفع الخاص والعام، فأينعت جهوده ثمرات زاكية على نطاق واسع في أمة الإسلام، وكتب الله له من القبول والمحبة الشيء العظيم، وإنا لنحسب الشيخ ولا نزكيه على الله ممن يصدق عليهم قول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا}(96)سورة مريم.
وفي الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله إذا أحبَّ عبداً دعا جبريل فقال: إني أحبُّ فلاناً فأحبه) قال: (فيحبه جبريل ثم ينادي في السماء فيقول: إن الله يحب فلاناً فأحبوه، فيحبه أهل السماء قال: ثم يوضع له القبول في الأرض).
وفي ضوء ذلك فإن من المهم جداً أن يقف الناس على مواطن العبرة والاستفادة من حياة الشيخ وكيف أنه قد جعل حياته مسخرة لما يرضي الله جلّ وعلا، والشيخ الإمام ابن باز ليس بدعاً من العلماء السابقين في سلف الأمة لنقول إنه كان أفضل منهم أو نحو ذلك، فالمقام ليس مقام تفضيل ومخايرة، إذ الأمر: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَيَخْتَارُ}(68)سورة القصص. وعلم ذلك عنده سبحانه وحده، ولكن نعرض أنموذج الشيخ بالنظر إلى أن القدوة الحاضرة الماثلة للناس والتي تعيش بين ظهرانيهم أبلغ في التأثير من الحديث عن قدوة عاشت في سنين ماضية أو أعوام غابرة بعيدة عن عصرنا الحاضر، وهذا ما يؤكد وجاهة هذا الاختيار بالنظر إلى أن هذا العصر شحت فيه أرحام النساء عن أن يلدن من يملك قلوب الناس بما فيه من خير وزكاء يكون همه الأكبر هو القيام بحقوق رب العباد، وبما فيه نفع عباده.
ومن تأمل في منهجية حياة سماحة الشيخ ابن باز في تعامله الشخصي وفي جدوله اليومي الذي حافظ عليه على مدى سنين متعاقبة يتضح بجلاء ما كان عليه سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز -رحمه الله- من الرغبة العظيمة في ثواب الله وابتغاء ما عنده والإعراض عن متع الدنيا أو الاستكثار من حطامها.
لقد ولى الشيخ الدنيا وراء ظهره، ولذا لم يُحفظ عنه أنه جعل شيئاً من متاع الدنيا مستأثراً بالحديث في مجلسه، بل كان همه وشغله الشاغل هو العلم وتعلميه والعمل المقرب إلى الله تعالى.
وما كان لهذا التوجه العظيم أن يتمثل بهذه الصورة الجلية في شخص سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز - رحمه الله - لولا أن الله تعالى وفقه للفقه في الدين والعلم بما تعلَّمه ودعوة الناس إليه.
فالشيخ قد ابتدأ حياته بداية متواضعة يسيرة، إذ لم يكن لأسرته من الصِّيت ما بلغه الشيخ، وإن كانت معروفة بالفضل والزهد فيمن اتصل بها، كما أنها لم تكن بذات ثراء تعلو به الآخرين أو تنافسهم فيه، والمقصود أنه لم يكن لأسرة الشيخ في سابق الأيام من التأثير في عامة الناس داخل البلاد وخارجها ما يمكن أن نعول عليه ليبلغ الشيخ به ما بلغ.
وهكذا نشأته -رحمه الله- كانت البداية فيها ما بين يُتم وحاجة وكفَّ بصر، فوالده توفي عام 1333هـ ولسماحة الشيخ ثلاث سنين. فنشأ يتيماً في حجر والدته التي توفيت -رحمها الله- وللشيخ من العمر ستة وعشرون عاماً، وكان مما ينقل عنها أنها كانت قلقةً على الشيخ وعلى مستقبله، وبخاصة لما كفَّ بصره وهو ابن تسعة عشر عاماً.
وعملاً بالأسباب ورغبة في البعد عن الحاجة للناس فقد عمل سماحة الشيخ -رحمه الله- في صباه في بيع (البشوت - عباءات الرجال) مع شقيقه محمد الذي يكبره بخمس سنين، إلا أن الشيخ كان يتردد على حلقة المسجد لحفظ القرآن الكريم، حيث أتم حفظه وقد بلغ الرابعة عشر من عمره تقريباً.
ثم اجتهد -رحمه الله- في طلب العلم وحضور دروس العلماء، حيث تفرغ الشيخ للعلم تفرغاً كاملاً. وقد كفَّ بصره عام 1350هـ وله من العمر تسعة عشر عاماً وأشهراً.
ولكن ذلك لم يزده إلا رغبة في العلم وحباً له، حيث تفرغ للعلم، ولازم سماحة مفتي البلاد السعودية في حياته الشيخ العلامة محمد بن إبراهيم آل الشيخ - رحمه الله - فاستفاد منه فائدة عظمى، ولذا كان بعده الشيخ أعظم شيوخه وأقربهم إلى نفسه.
ولم يزل -رحمه الله- على جادة الخير ودروب الإحسان على مدى عشرات السنين المتعاقبة. حتى نفع الله به نفعاً كبيراً، فبلغت آثار علمه آفاق الدنيا وأنحاءها المتباعدة، جزاه الله خيراً وضاعف مثوبته، وأسكنه فسيح جناته.
وأنت تلحظ من خلال ما تقدم أن الشيخ قد تميزت حياته ورسالته في الحياة بسبب ارتباطه بالدين وتمسكه به وتفقهه فيه، وأتبع ذلك بالإحسان إلى الناس وحسن التواصل معهم، والتعفف عن شوائب المكاسب، ولأجل ذلك فقد كان له من العالمية ما جعله محل قبول ومحبة في أرجاء الوطن، وما كان ذلك لشخصه ولا لمنصبه ولا لماله ولا لشيء غير ذلك، وإنما لأنه يحمل همَّ الدين ويحيا من أجله، ولأنه مع ذلك لم يزاحم الناس على دنياهم، بل زهد فيها، وقد روى ابن ماجه وغيره من سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه قال: (أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل فقال: يا رسول الله دُلني على عمل إذا أنا عملته أحبني الله وأحبني الناس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ازهد في الدنيا يحبُّك الله، وازهد فيما في أيدي الناس يحبوك). سمعتُ الشيخ يقول: إسناده جيد.
إنَّ من الجدير أن يدرك كل وجيه وكل طالب علم وكلُّ من انتصب للتعامل مع الناس ومخالطتهم أن إسداء المعروف إليهم وتنظيف الأيدي من حقوقهم والحرص على استدامة الإحسان إليهم والصبر على مخالطتهم هو المرتقى الأصعب والأشم، الذي ينال معه الإنسان سلامة العرض ولسان الصدق والذكر الحميد مهما تطاول الزمان.
رحم الله شيخنا وأسكنه فسيح جناته، ونفع الأمة بعلمه، وأخلف عليها خيراً. وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
khalidshaya@hotmail.com