ليس بالضرورة أن يكون الباذخ هو من يملك المال، لأنه وبحسب تاريخ البرجوازيات وخاصة البرجوازية التقليدية، فإن هذه الأخيرة لم تكن تاريخياً تبحث عن التمايز الاجتماعي بنفس طريقة البرجوازية الطفيلية. التميز الذي كانت تطمح إلى تحقيقه البرجوازية التقليدية كان وما زال يتجسد من خلال وسائل الإنتاج والإنتاج كجودة وحضور ومنافسة وعلاقة تجارية ذات قيمة ومكانة، بمعنى أن سلطتهم الاقتصادية هي التمايز الحقيقي بالنسبة لهم، بينما البرجوازية الطفيلية تجد في البذخ والبطر الذي تعيشه إمكانية تحقيق التمايز الاجتماعي ولكن بشكل معكوس تماماً ولا مجال للمقارنة على الإطلاق مع البرجوازية الأولى.
إن البذخ كممارسة يومية من جانب البرجوازية الطفيلية، تكشف عن وجود مفارقات كبيرة بين الاستهلاك والإنتاج، فلو كان المبذر منتجاً ويعرف معنى الإنتاج لما مارس البذخ، لأن معرفة الإنتاج تعني معرفة ساعات العمل والجهد المبذول، الفكري والعضلي الذي صرف من أجله. وبما أن البذخ أو (البطر) لا يعرف الإنتاج فإنه لا يحترم الجهد أصلاً، وهو لا يعرف إلا الربح السريع تماماً مثلما كان واقع حال تجار العقارات والسيارات والأسهم. وحين أتينا على مثال تجارة العقارات والسيارات والأراضي والأسهم، فليس ذلك إلا لأن هذا العمل كان وما زال في كثير من جوانبه عبارة عن سمسرة لا أكثر ولا أقل.
المعروف أن كل إنتاج متطور يستوجب التراكم (تراكم المال)، أو ما كان يسمى بالتراكم البدائي في مرحلة ما قبل الثورة البرجوازية، وبالتالي كان هذا التراكم أساساً لقيام الصناعة، أي الإنتاج الوطني وخلق مشاريع تخدم المجتمع بكافة مجالاته، بينما البذخ هو نفي للتراكم، بمعنى استعمال الأموال لإرضاء ذوات أنانية ومدعية ومتسلقة وليس من أجل خدمة الصالح العام. وبذلك من البديهي الاستنتاج أن البذخ هو نفي ونقيض للمسؤولية الوطنية والاجتماعية والأخلاقية، وأيضاً هو تعبير عن انحطاط، لأن البذخ هو عبارة عن إرهاق واستهلاك الطاقات البشرية والإمكانيات القائمة بلا غاية أو هدف، وبالتالي يكون البذخ عبارة عن احتقار للثروات الطبيعية والإنسانية، وأيضاً شكل من أشكال السخرية بالطبقات الفقيرة التي تكد في قوت يومها.!!
البذخ من الناحية النفسية هو تعبير مشوه وسلوكيات مشوه لشخصيات مشوهة، لأن هذه الشخصيات على المستوى الفكري أو الثقافي أو الاجتماعي ليس لديها ما تميز به نفسها، فتلجأ إلى البذخ أو البطر كوسيلة وخيار للتميز الاجتماعي. ولهذه الحالة، فإن التميز هو عبارة عن مرآة لنفوس فارغة، أي أن البذخ هو ممارسة لسلطة المال لدى أشخاص ليس لديهم أي سلطة اجتماعية بالمعنى الأخلاقي والمعنوي للكلمة. وهؤلاء بدون هذه النقود هم لا شيء. ولو كان هؤلاء تربوا أو تلقوا تربية بشكل صحيح وفي مجتمع سليم، ولو كان كسبهم للمال بشكل منطقي ومبرر وسليم، لما قاموا بمثل هذه الممارسات المرضية. إذن العمل والإنتاج هو أساس التطور الصحيح للشخصية، وبما أن ظاهرة البذخ مرآة لتفسخ المجتمع وانحلاله، فإن هذه الشخصيات تنكر أو تجهل كل المعايير الجمالية والثقافية، فيصبح عندهم الكم هو معيار الجمال . بينما تميز الإنسان بإنتاجه بالمعنى الإيجابي كما ذكرت، وفي ظل مجتمع صحيح، بينما في حالة الانحطاط وظروف إنتاج البرجوازية الطفيلية، يصبح البذخ هو وسيلة الجمال الاجتماعي، أي الشهرة التي يتم الوصول إليها من خلال البذخ، وفي سبيل تحقيق الشهرة تكثر الاحتفالات الباذخة. والولائم، أو بدلاً من شراء جهاز (موبايل) واحد مثلاً يقومون بشراء أكثر من جهاز ويعتمدون على تبديل هذه الأجهزة بين وقت وآخر. وبدلاً من شراء جهاز تلفزيون واحد تجد في بيوتهم ثلاثة أو أربعة أجهزة.. إلخ!. بينما المجتمعات التي تسير بشكل صحيح نجد أن الكيف هو معيار الجمال.
إذن هذه الطبقة، هي شيء هجين اجتماعياً، وهذه الهجانة تؤسس لثقافة هذه الطبقة وثقافتها سهلة جداً, وليست بحاجة إلى الشرح أو الاستفاضة، لأن ثقافتها وباختصار شديد هي ممارسة الفراغ.
مبارك الظويفري
عضو جمعية الاقتصاد السعودية