Al Jazirah NewsPaper Monday  17/09/2007 G Issue 12772
الريـاضيـة
الأثنين 05 رمضان 1428   العدد  12772
للعقل السليم
بين الإمام الشافعي والداعية الصحوي!!
تركي ناصر السديري

يقول الإمام الشافعي: (كانت نعمتي في شيئين: في الرمي، وطلب العلم. فنلتُ من الرمي حتى كنت أصيب من عشرةٍ عشرةً، والعلم فما ترون).

والإمام الشافعي غنيّ عن التعريف؛ فهو أعلم فقهاء زمانه (150-204هـ)، وله قيمته ومقداره في الفقه والشريعة الإسلامية على مختلف الأصعدة والأزمنة.

هذا الفقيه المرجعي، على رغم انشغاله بالفتيا والتدريس والبحث وما يثقل كاهل العالم، وعلى رغم كل هذا الحشد من المسؤوليات والواجبات والمهام، كان مولعاً بالرياضة، مدركاً لقيمتها وأهميتها للفرد والمجتمع، بل وتباهى بحذاقته وإتقانه للعبته الرياضية (الرمي)؛ لعبة العرب الأولى والأكثر انتشاراً وشعبية في المجتمعات العربية المسلمة حتى ولوج الإنسانية في حقبة الثورة الصناعية وحلول الرياضة الحديثة بديلاً تفرضه سنة التطور الإنسانية عن الرياضة التقليدية التي باتت تراثاً.

لم يكن الإمام الفقيه الشافعي مجرد ممارس هاوٍ، بل صار متقناً ومتميزاً في لعبته الرياضية، والعارفون بعلم الرياضة يدركون أن الإتقان والتمايز في الأداء (الشافعي يصيب في الرماية 10 من 10) يتطلب شرطاً حتمياً يتمثل في المداومة الجادة والمستمرة في الممارسة الرياضية وامتلاك الاستعداد المهاري.

وأتأمل طويلاً وكثيراً وعميقاً تباهي الإمام الفقيه إمام زمانه وكل الأزمان (بقدرته الرياضية)، ومجاهرته التفاخرية بها، بل وإعلاء قيمتها وأهميتها عندما يذكرها ك(نعمة) تعقب نعمة العلم الشرعي.

يُورد الفاكهي كامل نصّ مقولة الإمام الشافعي على النحو التالي: (كانت نعمتي في شيئين: في الرمي وطلب العلم. فنلتُ في الرمي حتى كنت أصيب من عشرةٍ عشرةً، والعلم فما ترون. وكنت ألزم الرمي حتى كان الطبيب يقول لي: أخاف أن يصيبك السل من كثرة وقوفك في الحر).

لم تكن علاقة الشافعي باللعبة الرياضية مجرد نزوة رغبة، أو فضول تعرُّف وتجريب، إنما كانت علاقة قناعة وتفاعل. (قناعة) بقيمة وأهمية الممارسة الرياضية للفرد من خلال ما تحقِّقه من توازن بدني وذهني ونفسي للفرد، وما تحققه وتكسبه للفرد من سلوكيات وطبائع سوية تجعله الأكثر نشاطاً، واستجابة بدنية وذهنية ونفسية لأداء الواجبات العبادية والإنتاجية والحياتية، واستملاكاً لروح الجماعة والتسامح والإخاء.

والإمام الشافعي عندما يدرك قيمة وضرورة الرياضة للبدن والذهن والنفس ولكل المجتمع إنما هو يقتدي بخير الخلق رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي اهتم واعتنى بألعاب ومناشط الرياضة ورعاها وشجّع وحثّ الناس على ممارستها. ولهذا أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم أول فعالية رياضية في مجتمع المدينة المنورة المسلم؛ المجتمع المدني الجديد الذي تضيئه أنوار النبوة والوحي، مدشِّناً بذلك بداية تواجد الرياضة في وعاء المجتمع الآمن والمستقر المملوء عافيةً وصحة وازدهاراً وتآخياً. أقيم في السنة السادسة للهجرة سباق للخيل، وأمر بإقامته رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكلَّف علي بن أبي طالب بالإشراف على إقامته وتنظيمه، وأوكل له مهمة ما يمكن أن نطلق عليه (لجنة التحكيم)، وقد اختار عليّ رضي الله عنه مجموعة من الصحابة المشهود لهم بمعرفة أمور سباق الخيل، ومن بينهم سراقة بن مالك، فوزِّعت بينهم المهام والمسؤوليات لإقامة أول فعالية رياضية في الإسلام، (وقد كتبتُ عن هذا الحدث بتوسُّع في مقالات سابقة). وقدَّم رسول الله صلى الله عليه وسلم الحافز المعنوي والمادي للمتسابقين بحضوره وتشجيعه ومكافأة السابقين بالجوائز العينية حللاً أو دراهم أو دنانير أو ثياباً.

هذه المسابقة التاريخية دشَّنت لحركة رياضية عظيمة ضوضأت المجتمع المدني المسلم الجديد، ونعمت بأفضالها وعطاءاتها الإنسانية حتى يومنا الراهن، المتمثلة في تأسيس وتطوير ألعاب ومناشط رياضية تمارسها المجتمعات البشرية إلى عصرنا العولمي الآن بدءاً من لعبة الجولف والتنس ومروراً بألعاب الجمباز والمصارعة والرماية وانتهاءً بألعاب الكرة!.

أدرك الإمام الفقيه المستنير والمتواصل مع رتم الحياة المعاش في مجتمعه قيمة وأهمية الرياضة واقتداءً بالرسول الإنسان وصحابته الأبرار الذين عنوا واعتنوا بالرياضة أيّما اهتمام رعايةً وممارسةً.

كنتُ قد كتبتُ كثيراً عن هذه الجوانب، بل لعلها أكثر الجوانب اهتماماً وحرصاً عندي بحثاً وكتابة، وهو ما جعلني منذ شهور منشغلاً في البحث والكتابة عن الرياضة في المجتمعات المسلمة، خصوصاً في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين وفترات ازدهار مجتمعات الحضارة العربية الإسلامية.

وفي ظني أننا بحاجة (الآن) إلى تسليط الضوء على تلك الحقبة لمواجهة ما فعلته وتفعله بنا الصحوة الوافدة المعادية للرياضة وجوداً وتواجداً سامياً ونافعاً، فقد حكمت على الرياضة بأنها مفسدة تصل إلى درجة المنهيّ عنه، وربما حكمت عليها بالتجريم!.

ما يحضرني لمثل هذه الكتابة ما ذكره أحد الدعاة المعروفين الذي له ظهور إعلامي يتفوَّق على هيمنة وانتشار أعلام الفانلة الصفراء!. هذا الداعية حمد الله في مقابلة صحفية على أنه لا يعرف طوال حياته ثلاثة أمور: الرياضة، ولعب الورق، وسماع الأغاني!.

لذا أسأل داعيتنا الصحوي وموقف ووعي الإمام الشافعي تجاه الرياضة ماثل أمامي: بمن يقتدي هذا الداعية المنعزل عن حركة التغيير والتطور التاريخي والحضاري والإنساني إذا لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته هم القدوة والنموذج في الفعل والعمل والموقف؟! كيف لا يدري الداعية الصحوي المُختطَف للمدرسة ومناهجها - مثلاً - مثل هذه الحقائق التي من المفترض أن تجعل اهتمامه بالرياضة ذا أولوية اقتداءً برسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته والتابعين، وهم الأولى بأن يُؤخذ منهم الرأي والموقف وليس من عالم صحوي منغلق ومأزوم يفتقد لأهم شرط فقهي (الإلمام بعلوم وشؤون عصره)؟!

سأختم بتساؤل متعجِّب مستنكر عن سبب تفريغ المدرسة (مناهج) و(مناشط) من الرياضة كثقافة وممارسة، مَن غيَّب حقائق وصحيح السيرة النبوية والراشدة ومعاش وحياة مجتمع صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يخصّ المناشط الرياضية والترويحية؟!

يبقى السؤال الأهم: إلى متى يستمر ذلك؟!

والحمد لله جلَّت قدرته على أن جعلني مسلماً راشداً ومستقراً ومدركاً، يعرف الرياضة قيمةً وأهميةً، ويسمع الأغاني والموسيقى.




 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد