في مرحلة ما بعد العولمة وتحول العالم إلى قرية كونية واحدة بدأت تتشابك بها القيّم والأفكار وأصبح فيها الفكر الليبرالي المنبثق عن الأحادية القطبية هو سيد الأجواء وأكثرها بريقاً وجذباً للأذهان، أصبحت خصوصية الشعوب الثقافية في مرمى استهداف القيّم المستوردة والقادمة من خلف حدود العقل الوطني والإرث الانطباعي للأمم، ولا يعني ذلك إننا ننظر إلى مسلمات الأمر بقتامة التنظير أو الإيمان بنظريات المؤامرة التي لعبت دوراً مهماً، واتخذت ومازالت تتخذ حيزاً لا بأس به في بعض مسارات الفكر العربي والجمعي منه بالذات إلا أن المحاولات القسرية للتحول للديموقراطية وفرض مشاريع سياسية وفكرية ظاهرها الديمقراطية وباطنها الاستعمار الثقافي قد أضحت من أهم مهددات الكينونة الحضارية والفكرية للشعوب، فمن المعروف أن القناعة السياسية والنمط الحضاري لا يمكن استجلابه من الخارج ولا يمكن استيراده تحت حجج التطوير والحداثة والعصرنة، التي وإن كان منظروها يطرحون الكثير من الأفكار البراقة والرومانسية التي تأسر أفئدة البعض، كالحرية في التعبير والفردية والديمقراطية.. فإنهم يتجاهلون أن الفكر إن لم يكن انطلاقه وانبثاقه من داخل المحيط الوطني والحضاري الخاص به والذي يجمع في ثناياه بين الأصالة والانتماء، فإن مصيره الفشل والتقوقع وإحداث الصدمات الحضارية والإرباك الاجتماعي بعد انتهاء الصلاحية وإثبات عدم المواءمة من حيث المواصفات والمقاييس الاجتماعية والمعيشية.
لا يعني ما سبق إننا نطالب بالانكفاء على الذات أو إطلاق التعميم الاقصائي على الأيدولوجيات والأفكار الإنسانية الأخرى وهو الأمر الذي لا يقل سوءً عن كارثة الارتماء في أحضان الفكر المستورد واستجلابه, وفي عصر انفتاح الحدود الإقليمية والتي رافقها ثورة اتصالات ساهمت هي الأخرى في انفتاح العقول على ثقافات وقناعات الأمم الأخرى أصبح الأمر يحتاج إلى نوع من الموازنة والتمحيص والذي من خلالهما يمكن الحفاظ على النسق الفكري والوطني وحمايته من الانسلاخ الحضاري مع تطعيمه بروح العصرنة والتكيف مع مقتضيات العصر ومتطلبات المرحلة الإنسانية الراهنة، فالحفاظ على الأصالة الحضارية لا يعني رفض الآخر أو تثبيت التوجس الدائم منه ومن إنتاجه العقلي والقيمي، كما أن السعي إلى التطوير والتنمية الإنسانية والحضارية لا يتم أيضاً من خلال اللهث خلف الأيدولوجيات والأفكار الأجنبية التي أكد بعض منظريها وفلاسفتها أنها وإن شملت واحتوت على قواعد ومستلزمات سعادة الإنسان من حيث التنظير فإنها لا تحقق ذلك من حيث الواقع وإنها ليس بالسلعة المضمونة التطبيق في كل زمان ومكان خصوصاً إذا ما اصطدمت بالإرث الانطباعي والثقافي للشعوب.