(رحلة الفقر والغنى) كتاب أنيق.. من الحجم الصغير.. لا تتعدى صفحاته 165 صفحة.. أرفق داخل غلافه CD.. هذا الكتاب الذي كما عرفت أنه كان مفاجأة.. قامت بإعداده فتاة معجبة بأبيها.. تراه ونراه في أعيننا كبيرا.. وأنه يستحق منها رد بعض من الجميل.. والوفاء له.. والبر به.
|
هذا الكتاب قامت بإعداده الأخت (هدى بنت محمد السبيعي) عن والدها الشيخ الجليل.. والعصامي المحنك.. والشاعر المغرد (محمد بن إبراهيم السبيعي)، الذي كتب مقدمته الأستاذ الأديب الأريب (حمد القاضي) عضو مجلس الشورى حالياً وأحد أبناء عنيزة الأوفياء.. وكان كالعادة مبدعاً في اختيار الكلمات التي تتوافق مع موضوع الكتاب والإشادة به، ومما قال (لقد استطاعت (هدى السبيعي) بكل نبض الحب لوالدها أن تسكب فجر حروفها على دجى عنانه لتسجل بوفاء (البنوة) تفاصيل تجربة (الأبوة) ناقلة بأمانة ما نال أباها من حرائق الحياة وما ارتوى به من رحيقها، ومدونة قدرة واحد من جيل الرواد أسهم في تحويل نسيج الأمس القريب إلى نغمات نشيد تأنس به الأجيال في حاضرها تماماً مثلما ارتوت بجداول الحنان ودفء الرعاية من آبائها وأمهاتها بماضيها) بمثل تلك الكلمات الجميلة والرائعة جاء ختام المقدمة الطويلة عن رحلة الغنى والفقر في كتاب هدى السبيعي الذي قالت عنه (وهل للبدر عن إشراق الشمس من نور؟ تلك هي سيرة والدي محمد بن إبراهيم السبيعي أحد الذين صنعوا التاريخ بعرقهم وجهدهم، وبنوا لبنات في تقدم هذا الوطن وازدهاره). وختمت في نهاية مقدمتها (أدين لك بوفاء ما حييت، وافتقر لعبارات الشكر وان كثرت) يا للروعة.. والعناية.. والتربية الصالحة.. بل كانت تبحث عن الوقت المناسب لأن تفاجئ أباها في حياته بهذا الكتاب.. الذي حريّ بنا وبهذا الجيل من الأبناء (قراءته) لكسب العبرة والتجربة.. التي أرسى لها للأجيال رجل تجربة ثرية مثل الشيخ محمد السبيعي. كتاب رحلة الفقر والغنى بفصوله الاثنى عشر التي ضمَّنت بين سطورها وصفحاتها كفاحا.. وجهادا لصعوبة الحياة في ذاك الزمن.. بدأ الفصل الأول منه يتحدث عن مولده ونشأته.. هو أبو إبراهيم محمد بن إبراهيم بن محمد بن ناصر السبيعي، يعود نسبه إلى قبيلة سبيع من مدينة عنيزة التي ولد فيها عام 1333هـ، وهو عام مشهور في جزيرة العرب، فقد شهد معركة (جراب). توفي والده إبراهيم في المدينة المنورة في شهر شعبان لعام 1344هـ الذي كان يعمل في إصلاح السلاح مع اكبر قادة الملك عبدالعزيز طيب لله ثراه، ووالدته نورة بنت ناصر العماش من البدائع في القصيم، وهي من بيت علم ودين، وينتهي نسب العائلة إلى قبيلة قحطان. توفيت عام 1404هـ - رحمها الله.وتحدث الفصل الأول عن مراحل مهمة من حياة أبي إبراهيم وما عاناه في بداية حياته.. حيث كانت والدته هي الأم والأب لأن والده كان يتنقل ما بين مكة المكرمة والمدينة المنورة سعياً إلى طلب الرزق، حيث كان الفقر يضرب أطنابه على معظم سكان الجزيرة العربية، وكان أهل نجد يغادرون مناطقهم إلى الحجاز والشام والهند للتجارة والبحث المضني عن لقمة العيش مرددين:-
|
الهند هندك إذا قل ما عندك
|
والشام شامك إذا ما الدهر ضامك
|
وعايش أبو إبراهيم حياة (اليتم) حيث توفي والده وعمره إحدى عشرة سنة، أمضى منها ثمانية أشهر مع والده. ومع تراكم الظروف القاسية أدرك الصبي واجبه في السعي للبحث عن عمل يكفل له ولوالدته وأخيه عبدالله لقمة العيش، فقرر التوجه إلى مكة المكرمة مع عمه ناصر، وكان هذا الاختيار موفقاً؛ حيث كانت مكة المكرمة آنذاك ملتقى التجار من أنحاء العالم، حيث كما هو معروف يتوافد إليها الحجاج والمعتمرون، إضافة إلى قربها من ميناء جدة.
|
ويروي عن هذه الرحلة أبو إبراهيم بأنها (كانت رحلة شاقة والطريق طويلاً والماء شحيحاً، وقد وردنا إلى بئر ماء اسمها (العتمة) قريبة من الدوادمي، وكان ماؤها كدراً جداً فشربنا منه لأننا لم نجد غيره).بالنسبة للتعليم فان أبا إبراهيم قرأ نصف القرآن الكريم في عنيزة على يد الشيخ عبدالعزيز الدامغ رحمه الله.. الذي كان يُدرِّس القرآن الكريم لوجه الله تعالى، وكان البعض من الطلاب وكما يقول الكتاب يعطيه الفطرة في رمضان، والبعض الآخر يعطيه ريالا ونصف الريال كل سنة، والبعض لا يعطيه شيئاً.. ويتذكر الشيخ محمد السبيعي انه بينما كانوا مرة في الدرس إذا بهم يفاجؤون بزيارة سلطان نجد والحجاز حينذاك الملك عبدالعزيز آل سعود في موكب من السيارات الحديثة.. يقول عن هذا الموقف أبو إبراهيم: اذكر أن الملك عبدالعزيز رحمه الله قام بزيارة عنيزة على سيارة وعندما سمع سكان عنيزة صوت السيارة انزعجوا فجاءهم ابن غصون وهو من الذين عاشوا مدة من الزمن في العراق يسمونه (ترمبيل) وهو وسيلة نقل حتى يهدئ من روعهم. أما المعلم ابن دامغ فقال: الحديد يمشي هذه من علامات الساعة، ومن جراء هذه الصدمة بقي مريضاً حتى توفي رحمه الله. وكان أبو إبراهيم حريصاً على الدراسة والتعلم وحاول المواصلة بمدرسة الفلاح بمكة المكرمة، وكانت المدرسة الوحيدة فيها، ولكن عمه ناصر عندما أدرك أن المدرسة ليست كالكتّاب، التي يقضي الطالب فيها معظم النهار، علم أن هذا يعني انقطاع ابن أخيه عن العمل في الدكان، وهذا لم يرق للعم فأخرجه منها. ويقول الشيخ محمد السبيعي عن تلك المرحلة:عندما كنت ادرس في المدرسة سألني عميّ عن أحوال الدكان، وكنت منشغلاً في مراجعة واجب الحساب واجمع أرقاماً بلغت خمسين ألفا.. فما كان من العم إلا أن نهرني وأمرني بالانتباه للدكان وصرف النظر عن جمع وطرح تلك الأرقام الخيالية، وقال لي (لو انك ملكت عشرة آلاف ريال فقط طوال عمرك وليس خمسين ألفا فأنت عنترة بن شداد).
|
وتطرقت الكاتبة إلى بدايات كفاح أبي إبراهيم بأنه كان يجلب الماء للبيت وللديوان لدى عمّه مقابل أجر زهيد لكي يساعد ابن الثلاثة عشر عاماً أسرته.. وبعد عدة شهور ترك هذا العمل وبدأ البحث عن عمل آخر أكثر ربحية، وحاول ولكن لصغر سنه لم يقبل في الجيش، فتوجه للبناء مقابل بضعة قروش إلى أن توسط له احد معارفه وهو إبراهيم الفريح رحمه الله ليعمل في قصر الملك عبدالعزيز على وظيفة مشرف عمال بمرتب ريال مجيدي واحد في اليوم، وهو يساوي اثنين وعشرين قرشاً. وامتهن أبو إبراهيم مهن عديدة منها طباخ لمدة سنة وعشرة أشهر، وتعلم القيادة والخياطة التي لم يستطع خلالها شراء ماكينة خياطة لارتفاع سعرها وعدم تواجد هذا المبلغ.. ومن المهن التي زاولها (دلالاً) لبيع السجاد من خلال الطواف بالشوارع. وفي عام 1349هـ عمل في وظيفة حكومية بمسمى (مفتش طريق) وكان راتبها مغرياً ذاك الزمان، حوالي ثلاثين ريالاً، إضافة إلى المأكل والمشرب والمسكن.. وعندما توافرت له هذه الإمكانات احضر والدته وأخاه عبدالله للإقامة معه، ولكن بعد أن أمضى في الوظيفة أربع سنوات عاد به الحنين والطموح للتجارة مجدداً وهو يرددّ شعار احد الصحابة (دلونيّ على السوق)، وعاد إلى مكة المكرمة وكان له مع سليمان بن غنيم احد تجار مكة قصه أخرى، حيث كان ابن غنيم يرغب في زيارة أقاربه وأهله بالمنطقة الشرقية فاتفق مع أبي إبراهيم عن طريق عمه ناصر على شراكة وان يتقبل الثاني بموجبها ما في دكان ابن غنيم من أقمشة وعقل وغتر مقابل تسعمائة وخمسين ريالا مع أنها لا تساوي أكثر من خمسمائة ريال إلا أن السبيعي وافق لقناعته بأهمية هذه الشراكة وعزمه أن تكون بداية انطلاقه في عالم التجارة.. واستمرت هذه الشراكة بعد النجاح الكبير الذي حققه بفضل الله لعلاقته الحسنة مع التجار وضيوفه في التعامل معهم وأمانته.. وقرر ابن غنيم أن يبقي شريكه أبا إبراهيم في مكة وان ينتقل هو إلى الرياض؛ ما جعل أبا إبراهيم يستدعي أخاه عبدالله للشراكة التي كانت بدايتهما.
|
ولعلي هنا اذكر ومن باب الإشادة بهذه الشراكة بين الشيخين محمد وعبدالله السبيعي أنها شراكه مثالية انعكست على أبنائهما.. ولعلّ من أهم ما لمسته شخصياً انه عندما يكتب أي منهما رداً لخطاب حول موضوع معين أو رداً على تهنئة فإن التوقيع لا يكون باسم احدهما.. بل انه يذيل باسميهما.. مع أنهما لا يعيشان في مدينة واحدة، ولكن كان الأساس لأخوتهما.. وشراكتهما.. أساسا قويا وصلبا.. وليس للأسف كما نشهد اليوم - إلا من هدى الله - من شتات.. وابتعاد.. وفرقه بين البعض من العائلات والأسر.. حتى أحياناً بين الأشقاء.. بل وصلت إلى تفكك العديد من الشركات العائلية.. كل هذا عائد وللأسف لعدم الوضوح والشفافية الصادقة التي منبعها الحرص على استمرارية الترابط العائلي.
|
أعود إلى أبي إبراهيم الذي يذكر أن شراكته مع سليمان بن غنيم استمرت 28 عاماً، وفي عام 1382هـ قررا الانفصال وتم حل الشراكة بكل محبة ووفاء ليبدأ مع شقيقه عبدالله رحلة عمل موفقة في مجالات عديدة كالصرافة إلى جانب التجارة بأمانة وصدق.. وقد اكتسب أبو إبراهيم من خلال إقامته في الحجاز أفقاً واسعاً واطلاعاً كبيراً على ثقافات الشعوب وطباعها وكثيراً من عاداتها.. ولعلي من خلال معرفتي بابي إبراهيم وأبنائه أدرك فعلاً ما ذكرته ابنته (هدى) بأن مكوثه في الحجاز جعل منه أكثر انفتاحاً على الآخرين من أقرانه النجديين.. وأزيد على ما ذكرت بأنه يتمتع بالنكتة والتعليق اللاذع، حيث شاهدت له مقابلة على قناة الإخبارية قبل عدة أسابيع وعندما سأله المذيع عن شهادة الدكتوراه وأهمية الحصول عليها من قبل الأبناء فكان ردّه (وشي شهادة الدكتوراه.. دكتوراه (خرطي)) وأعتقد أن أبا إبراهيم يعني بمن يحمل دكتوراه وكانت رسالته في الدكتوراه عن (الكبسة) و(الجريش)، هذه والله صدق فيها أبو إبراهيم، وأقول صح لسانك.
|
ثم انتقل الكتاب إلى حياة الشيخ السبيعي ومزاولته مهنة (الصيرفة) حيث يقول عن تلك الفترة (كنا لا نعرف الدولار الأمريكي في ذلك الوقت، وكنا نشتري العملات مقابل الذهب. وكانت تصلنا مبالغ طائلة من العملة الهندية فئة الألف روبية والدينار العراقي والعملات الإيرانية والتركية في أجواء من الأمن والطمأنينة).ومن طرائف ذلك الوقت يتذكر أبو إبراهيم أن السيارة كانت تتعطل في الطريق وهي محمله ذهباً أو فضة ويركبها السائق برفقة المساعد ويذهب للرياض أو جدة للبحث عن قطعة غيار لإصلاحها ليعود ليجدها كما كانت!!
|
ومن المواقف التي يرويها أنه عند القيام بنقل العملات والذهب بالطائرة ليلاً بعد أن تطورت وسائل النقل كانوا يأخذون الذهب والنقود ويدفنونها في الرمل حول المطار وينامون عليها ليلاً لإرسالها في الصباح الباكر مع احد الركاب.
|
وعن انتقاله للرياض يقول أبو إبراهيم: انه بعد نقل الوزارات إليها فكرت في التوسع وفتحت محلا، حيث كان لي أعمال مع بعض الأمراء والوزراء، وصادف أن قابلت في احد الجوامع الأخ عمر بن حمران رحمه الله، حيث كان يعمل لدى الكعكي في مكة وانتقل للرياض وصار وكيلاً له، وعرض علي اخذ دكان في شارع الملك فيصل ونكون شركاء، وتم ذلك وكان مشهوداً له بالصلاح والتقوى، وكان هذا فاتحة خير لعملنا بالرياض.وعن أخيه عبدالله فقد بقي في جدة واستمرت بفضل من الله شراكتنا إلى اليوم.. ويتذكر الشيخ محمد السبيعي بعضاً من ضياع الفرص حيث يروي أن موقفاً جمعه مع الملك خالد بن عبدالعزيز رحمه الله عام 1398هـ حيث اقترح عليه النظر في تحويل مؤسسة الصيرفة إلى بنك مستقل متكامل وخصوصاً أن اقتصاد المملكة كان في حينها في أوج ازدهاره، ولكن كان الخير فيما اختاره الله. وتحدث عن إنشاء بنك البلاد في عام 1425هـ وحرصه على تأسيسه وانه بالرغم من كبر سنه وظروفه الصحية أصر على حضور أول اجتماع لمجلس إدارة البنك، وألقى فيهم كلمه بدأت بآيات من القرآن الكريم ثم قال للحضور (أنتم أمام مسؤولية عظيمة أعانكم الله)، وقال لهم: (هنالك ثمانية ملايين مكتتب سوف يدعون لكم أو يدعون عليكم، فاتقوا الله في هذه الأمانة وكونوا أهلاً لها، وأعرف أن الحمل ثقيل ولكن الرجال لا ينوء بهم ثقل الأحمال)، ثم استأذن وانصرف.
|
وكان ولا زال لأبي إبراهيم من الرؤى الاقتصادية.. وبُعد النظر.. ما ساعد على تلك الاستمرارية.. ثمانون عاماً قضاها في دنيا المال والأعمال، وكان من أهم قناعاته الاقتصادية التي عرف بها أن الاستثمارات التجارية يجب أن تحقق للمستثمر مصالح شخصية ومصالح عامة للمواطنين، وذلك بنسب مختلفة.
|
وكان ولا زال حريصاً على التواصل مع أصدقائه.. يكنّ للجميع الود والتقدير ويذكرهم بالخير دائماً.. وخاصة من لهم معه مواقف مشرفة، وقد قال ذات مرة في وصف أصدقائه الأخيار:
|
هكذا الأخيار دايم بانتظام |
يتسابقون الطيب وممنوع الزعل |
ما ينكرون المعروف رجل له مقام |
ويرجو ثواب الله وتحقيق الأمل |
عبدالله محمد آل الشيخ |
|