تعدّ شخصية المواطن العربي حقلاً خصباً للتحليل النفسي والسيكولوجي مقارنة مع غيره من مواطني الدول الأخرى المصنفين تحت خانة العالم الأول والدول المتقدمة، ومع أن الكثير من علماء الاجتماع وعلم النفس يجنحون إلى التركيز على ما يتملك شخصية المواطن الغربي من سمات التوحش والتفسخ الاجتماعي التي هي نتاج طبيعي للحياة المادية الصرفة المنبثقة من الرأسمالية الموغلة في التطرف الإيديولوجي الليبرالي, إلا أن التنشئة الاجتماعية العربية يوجد بها الكثير من السمات التي هي من الأهمية بمكان للتدقيق بها ووضعها تحت المجهر كتنشئة وتربية لعبت دوراً مهماً في تكوين الشخصية العربية المعاصرة بكل ما تحمله من إيجاببات وسلبيات؛ فبغض النظر عن حالة الانكسار السياسي والقومي التي يعاني منها الكثير من مواطني العالم العربي والناتجة عن الهزائم القومية المتتالية منذ فترة ما بعد الاستقلال القطري من الاستعمار وتكريس وجود إسرائيل العدو التقليدي للشخصية والعقل العربي، تعاني الشخصية العربية أيضاً من عدة إرهاصات وترسبات تسيطر بشكل واضح على الحياة المدنية للشعوب العربية, وتؤثر في انطباعات التصرف والفهم العام لبديهيات الأمور؛ إذ لا يختلف اثنان على أن العالم العربي يعاني أزمة واضحة في مسيرة التنمية السياسية والأيديولوجية، وهو الأمر الذي - كما أسلفنا - ترجم بعدة هزائم سياسية في إدارة الصراع مع إسرائيل وأزمات التعامل والحل مع معضلات العراق ولبنان والسودان وغيرها، إلا أن الهزيمة الاجتماعية أيضا لعبت دوراً مهماً فيما نحن في صدده من حديث؛ فالتنشئة الاجتماعية العربية التي تنطلق أولاً من الأسرة والمدرسة لتتدرج في مراحل سلم القيم الاجتماعي الأخرى ما زالت بحاجة إلى كثير من التطوير والتنمية ابتداءً من مرحلة الطفولة المبكرة التي هي بمثابة اللبنة الأساسية في تكوين شخصية المواطن والفرد الفاعل والمنتج؛ ففي البيت تقع المسؤولية الأولى على رب الأسرة في صقل الطفل منذ الصغر على بدهيات تحمل المسؤولية والاستقلال الإيجابي في اتخاذ القرار البعيد عن فلسفة الانقياد القهري والتسليم بلا نقاش تربوي يقوم على الإقناع والحوار التبادلي, وفي المدرسة، وهي حلقة الوصل الثانية في مسيرة تكوين الفرد، تتحمل هذه المؤسسة التربوية مسؤولية رعاية النشء بأساليب علمية تربوية تكون بعيدة كل البعد عن أساليب القهر والخوف والضرب (وقناعات العصى لمن عصى) التي أسهمت مع غيرها من أساليب القهر التربوي والاجتماعي في بروز ظاهرة الطفولة المتأزمة التي ترافق الفرد من صغره حتى مشيبه في آخر سني العمر؛ فتظهر شخصية مشوهة عاجزة عن اتخاذ القرارات ومترددة في تحديد خيارات ومسارات العمر وبعيدة كل البعد عن الإنتاج الاجتماعي السليم، الذي هو أحد الأساسات المهمة في تطور الأمم وريادتها في عصر المجتمعات المدنية والاستقلالية الذاتية للأفراد وتحمل المسؤولية الاجتماعية بمعزل عن الرعاية الحكومية.