من المداعبات والمواقف التي تعرضنا لها في الصغر أن يُطلب منا النظر إلى الكأس وتقرير هل هي نصفه ملأى أم نصف فارغة؟.. وكيف أن نظرتك تلك تحدد هل أنت متفائل أم متشائم؟.. ثم بعد ذلك بدأنا في التعرف على حالات وأنواع أخرى من النظر والنظرات.. فهناك من لا يرى من الأمور والحياة سوى الجانب السلبي.. فهو لا يرى من الدين سوى الحرام.. ولا يرى من صفات الله تعالى سوى أنه شديد العقاب.. ولا يرى في الناس سوى الانحلال وفساد الضمائر.. ولا يرى في الرجل سوى الشهوة.. ولا يرى في المرأة سوى أنها عورة.. ولا يرى في الآخرة سوى عذاب النار.. ولا يرى في الدنيا سوى الفساد.. ولا يرى في النهار سوى كشف الستر.. ولا في الليل سوى غطاء الخيانة.. ولا يرى في الحوار سوى العمالة.. ولا في السفر سوى الانحراف.. ولا في النظافة والقيافة سوى النعومة.. ولا في السكن الفاره سوى الغرور والتكبر.. ولا في كرم النفس سوى التزلف.
إن النظرة إلى الأمور والأشياء فقط من منظور مذهبي أو حزبي أو فئوي أو عرقي أو غيره.. لا تمكِّن صاحبها من الحكم عليها حكماً محايداً صادقاً نزيهاً بريئاً صحيحاً خالياً من الأغراض الشخصية.
وهناك من يرى أن شؤون الحياة من قضايا ومواضيع ومواضع وسير وتقاليد وأعراف ومعارف وثقافات وكل شيء آخر يدور في حياتنا من تصرفات أو نوايا يجب أن ينظر إليها من منظور ديني وبالتالي يكون الحكم عليها من ذلك المنظور.. وهناك من يرى أنه بسبب تعدد الأعراف والقوميات والتيارات الفكرية فإن الديمقراطية للمجموع والحرية الشخصية للأفراد هما الاتجاه الذي يجب أن تُرى الأشياء وفق حدودها وموروثاتها.. وهناك من يرى أن العلم والثقافة والمعرفة هي سيدة الأمر كله.. وهناك من يرى أن العقل والعقل وحده هو الذي يجب أن تُرى الأمور ويُحكم عليها وفقه.. وهناك من يرى الأمور كيفما اتفق.. فخير الأمور لديه هي العائمة المتفرقة المتفككة العبثية.. وأن الحياة كلها فعل وردة فعل.. وأن أي تفكير فيها بخلاف ذلك هو تعدٍّ على ناموس الحياة وصدفها ونظامها.
وهناك من يرى أن الحياة لم تُخلق لمجرد النظر إليها والتفكر في أحوالها والتكيف مع حلوها ومرها.. بل يجب هزها وخضها وإن لزم الأمر تفجيرها لإصلاح الشأن العام.