هنالك أسئلة تدور في أذهان كثير من الناس عن موضوع (اللغة) وأهميتها في مسائل الإقناع والتأثير وبناء الشخصية، وعن أهمية مفرداتها وجملها وأساليبها في التعامل والتفاعل بين الأجناس البشرية، وتظل الأسئلة في هذا المجال متاحةً للجميع، ولها من الإجابات ما يمكن أن يزيل اللّبس، ويوضح المعلومة، ولكن السؤال الذي يمكن أن نقف عنده قليلاً هو ذلك السؤال الذي وجهه إليّ أحد القرّاء الكرام بعد قراءته لمقالٍ نشر في هذه الزاوية قبل أيام عن (الخطابة) قائلاً: ما قيمة الخطابة والإلقاء في عصر الإلكترونيات وعصر الذرة والوسائل الحديثة؟ وأشار إلى قناعته بعدم أهمية اللغة المنطوقة في هذا العصر، فبإمكان الكفيف، والأصم الذي لا يتكلم أن يقوم بدورٍ في الحياة عن طريق الكمبيوتر دون عناء، بل إن إجادة الكلام قولاً وإلقاءً قد تكون سبباً في إهدار كثير من الوقت دون عمل.
هكذا كان رأي صاحبي في هذه المسألة، وحينما شرحت له الموضوع أعاد النظر في وجهة نظره مع أنه قال: سأحاول إقناع نفسي بما ذكرت. قلت له: مسألة اللغة مسألة حضارية، فهي مهمة لبناء الكون والتعامل بين البشر على اختلاف مستوياتهم، وهي جزء مهم من تكوين الإنسان لا يمكن أن يهمله أو يسير في الحياة بدونه، وموضوع التأثير والإقناع مرتبط بعوامل متعددة من أهمها اللغة قولاً وصوتاً وإشارات داعمة، وذلك كله مرتبط بالمخ البشري؛ فالطب الحديث يؤكد أن هنالك مائتي مجال تتحرك تلقائياً في ذهن الإنسان يومياً، يرسل من خلالها المخ أوامره إلى أعضاء الجسم البشري بما يناسب كل عضوٍ منها، ومن بين هذه المجالات (مجال اللغة المحكية) ثم تؤكد الدراسات الطبية أن هذا المجال هو المجال الوحيد الذي يحرك المجالات الأخرى كلّها، لأن مجال اللغة إذا تحرّك في مخ الإنسان تحركت معه مجالات التفكير، والاستذكار، والمشاعر والعواطف، وغيرها من المجالات التي تدعم مجال اللغة ولا تملك أن تتوقف إذا تحرّك؛ فالكلمة التي يقولها الإنسان مرتبطة بعقله وقلبه، وفكره وثقافته، ومخزونه اللغوي، ومعلوماته، ومن هنا كانت عناية الأمم بمهارات الكلام والأداء والإلقاء والحوار والخطابة عناية كبيرة، ولو كانت (الصناعات الحديثة) تغني عن هذا المجال الحضاري المهم لما كانت الدول الصناعية الكبرى في مقدمة دول العالم التي تُعنى بهذه المهارة، ففي أمريكا وحدها آلاف مراكز التدريب على الإلقاء والخطابة ووسائل التأثير والإقناع، وهناك كليات مقامة في هذا المجال، بل إن الغرب قد سبقنا نحن العرب في العناية بالتدريب على هذه المهارة المهمة التي تسهم إسهاماً كبيراً في تطوير شخصية الإنسان، وبناء طاقاته وقدراته، ورسم صورة ذهنية إيجابية له في أذهان الناس.
إن بيان الإنسان وبلاغته وحسن استخدامه للكلام المؤثر المفيد دليل على شخصية قويّةٍ، وسبيل من سبل حصوله على التقدير والإعجاب. ولعلّنا نتنبّه إلى أهمية تطوير هذه المهارة في أولادنا منذ الصغر، حتى لا تكون نقطة ضعفٍ في شخصياتهم حينما يواجهون الحياة ويحتاجون إليها.. وقدوتنا الأولى في هذا المجال سيّد الخلق الذي أوتي جوامع الكلم عليه الصلاة والسلام.
إشارة
أدبٌ كمثل الماء لو أجريته
يوماً لسال كما يسيل الماءُ
www.awfaz.com